هل يمكن أن أكون يساريًا رغم كوني مسلمًا؟



الكاتب : محمد أمجد كرارة

هل يُمكن أن أكون يساريًا رغم كوني مسلما ؟

سؤال يتكرر كثيرًا، ففي أروقة الشباب، لابد وأن يتطرق أحدهم إلى ذكر اليسار، وغالبًا ما يعاني هؤلاء الشباب من ضعف وقسور في الفهم، ناتج عن سطوة التيار الإسلاموي، وغياب روح الاطلاع والثقافة في عصرنا السائل هذا (عصر ما بعد الحداثة).

فلو استوقفت أحد المارة وسألته: ماذا تعرف عن اليسارية؟ لقال لك: لا أعلم (ونادرًا ما يقول أحدٌ لا أعلم) وقد يحاول لملمة مجموعة من الأفكار المجتزأة والمهترئة حول مفهوم اليسار. دون علم مسبق أو اطلاع كافٍ.

ولو انضممت لجلسة يرأسها مجموعة من ضحايا الإعلام اليوم، وتطرق الحديث مُعرجًا على كارل ماركس، لاجتمع الجمع منهم على قول إنه مُلحد. وذلك يُعد أمرًا غريبًا؛ وهو اختزال اليسارية والاشتراكية الثورية بفروعها الفلسفية من الماركسية اللينينية في صورة نمطية واحدة، وهي إنكار الإله!

فهؤلاء لا يعرفون شيئًا عما قدّمه اليساريون من نظريات في الاقتصاد (بغض النظر عن رؤيتهم الفلسفية)، ولا يعرفون كم دفع هؤلاء ثمنًا لنيل الحرية، ولو أصابوا تارة وأخطأوا ألف مرة. كل ما يعرفونه، صور اختزالية مبتورة، لملمها أصحاب التيار الإسلامي للحط من قدر اليسار.

فاليسار والدين، لا علاقة بينهما، أقصد، كوني يساريًا لا يعني بالضرورة الحتمية أني ملحد، ولا يعني رفضي القاطع للأديان، ولا يعني ضرورة التصادم مع المؤسسات الدينية؛ إن لم تتدخل في الشأن السياسي. فكونك مُسلمًا أو مسيحيًا أو حتى صرت مُلحدًا، لا يعنيني في شيء، لكن يعنيني مبدؤك، وصوتك في وجه الظلم، تعنيني وقفتك أمام كل ظالم، ونداؤك للحرية في آذان صماء حجبها الصدأ عن الحق. فكم من مُلحد ناصر القضية الفلسطينية، وكم من رجل دين ناصر الكيان الامبريالي المسخ، فالمُشكل هنا، ليس في الدين، وما شأن الدين؟! إنما المسألة مسألة مبادئ، فإن كنت صاحب مبدأ يرفض الظلم ويُعادي البراغماتية النفعية وينادي بحق الفقراء، فأنت عندي – ولو اختلفنا إيديولوجيًا – على رأس قائمة الأحرار.

ثم أقول لك إنه لا وجود لدين ولا فلسفة في الحياة رضيا بالظلم، فأنا يساري مسلم وأعتز بديني الإسلامي ونبيه الأعظم محمد (ص) الذي نادى بحقوق الفقراء ووقف في وجه طواغيت العالم وقتذاك. فنشأة كل دين، كانت من رحم المُعاناة ودعوة لتطبيق العدالة الاجتماعية والحط من غطرسة الظالمين.

أبو ذر وبوادر الشيوعية الأولى:

إن قُلت لك، إن اليسارية في تعريفها البسيط: رفضٌ قاطع لكل ظلمٍ واقع. وقُلت إن آلياتها تتنوع بين اشتراكية إصلاحية وثورية، وقُلت إن الثوريةَ أقصى أطوارها هي الشيوعية. ثم قُلت إن الشيوعية كدعوة تطبيقية لم يأتِ بها ماركس فحسب، بل وُجدت في كل زمان ومكان دعاوى لجعل آليات الإنتاج مُشاعة في يد الناس كلهم، وكل حسب عمله. فهل ستصدقني؟ فماركس جاء بالمفهوم، أما الدعوة فكانت سابحة في الفضاء لكل من يتلقفها.

علّك سمعت بالصحابي أبي ذر الغفاري، وهو من صحابة النبي الأعظم محمد (ص)، والذي رفض الظلم الواقع على الفقراء في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. ولكن، دعني أحكي لك القصة من أولها.

لمّا بايع الناس عثمان بن عفان، ارتكب العديد من الأخطاء (ولسنا هنا لذكرها)، ولكن من أشد أخطائه أنه كان يُعطي لبعض الناس أموالًا دون غيرهم، يستملكون من خلالها قصورًا وضياعًا وأراضٍ عديدة، فبعد أن كان الهيكل الإسلامي قائمًا على طبقة واحدة، وهي طبقة الزُهاد، أو المتوسطة بلغة عصرنا، صار هناك طبقة جديدة، وهي طبقة الأغنياء، والتي مثلها معاوية والزبير وطلحة، فعارض ذلك العديد من الصحابة وعلى رأسهم الإمام الأكرم عليّ والصحابي عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وأم المؤمنين عائشة([1]). لكن معارضة أبي ذر كانت أقوى بكثير، فقد كان في الشام، حيث يمكث معاوية وصحبه، وبدأ يحشد الناس ضدهم، فما كان من معاوية إلا أن حاول الإيقاع به، لينفض الناس عنه، فأرسل إليه ألفَ دينار، وكانت المفاجأة أن أبا ذر لم يأخذ تلك الأموال لنفسه، بل قام وفرقها على المُحتاجين والفقراء جميعًا، وحشدهم ضد معاوية وطرفه وإسرافه([2])، فأرسل معاوية إلى الخليفة عثمان بأن يُخلصه من أبي ذر وثورته، ففعل ذلك فعلًا ونفاه بعيدًا عن الشام في منطقة لا زرع فيها ولا ماء، ليموت وحيدًا، ولمّا مات لم يكن بحوزته ما يُكفّنه، حتى إن زوجه قالت: "أما والله ما فيه دينار ولا درهم"، أي أنه عاش فقيرًا ومات وحيدًا. ولمّا كان ينصح الناس بالزهد وبذل أموالهم في سبيل الفقراء، كان بعض الأغنياء المتغطرسين (وهم في كل زمان ومكان) يقولون له إنه مال الله، ليرد عليهم بل مال الناس. فأبو ذر كان يعرف أنهم سيحاولون توظيف الدين بما يتطابق مع مصالحهم، وهذا ما رفضه، وكان دائمًا ما يقول بل الرسول أولى أن يُتبع، أي أننا إذا أردنا أن نتبع أحدًا، فلا نتبع إلا النبي الأعظم، والذي استغنى عن كل شيء ليعيش مع الفقراء ويموت بينهم.

الخلاصة:

ما أود قوله إن اليسارية ليس لها أي علاقة بكينونتك الدينية، وعلاقتها جل علاقتها بمواقفك أمام الطغاة، فلو نظرنا إلى مبادئ الاشتراكية اليسارية، سنجد فيها مبادئًا سامية في كل دين يرفض الظلم، وقد ضربت لك مثالًا من حياة أبي ذر، ولو أردت أمثلة أُخرى لذكرت لك سيرة عمار بن ياسر الثائر المُخضرم والإمام عليّ وعدالته السمحة وعمر بن الخطاب واشتراكيته المُبكرة، والتي جعلت شاعرًا معاصرًا كحافظ إبراهيم يقول:

"ما الاِشتِراكِيَّةُ المَنشودُ جانِبُها ** بَينَ الوَرى غَيرَ مَبنىً مِن مَبانيها

فَإِن نَكُن نَحنُ أَهليها وَمَنبِتَها ** فَإِنَّهُم عَرَفوها قَبلَ أَهليها"

وفي سبيل الحرية، والاتفاق البارز بين دوافع اليسارية والدين الإسلامي، ظهر لدينا إمام مُعاصر زاهد مُصلح مُجدد، السيد الأستاذ الدكتور حسن حنفي، صاحب تيار اليسار الإسلامي، الذي ألّف بين الإسلام كدين والتيار اليساري كتوجه.



[1] جعفر ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، الجزء الثاني، صـ 615

[2] المرجع السابق، صـ 616

الكاتب : محمد أمجد كرارة

السيرة: كاتب مهتم بالفلسفة والتاريخ، يكتب في العديد من المنصات العربية: اضاءات، مدونات الجزيرة، ميادين، مؤمنون بلا حدود، عربي بوست، ساسة بوست. 

إرسال تعليق

0 تعليقات