الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني : حفريات في جسد الأديان (الإسلام نموذجا) | بلشفيّات


بقلم الرفيق احمد صالح


          يقول الدكتور صادق جلال العظم في أحد بحوثة:
" عندما أتكلم عن الدين في هذا البحث ، لا أقصد الدين بإعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض الفلاسفة. إن الدين يعنينا هنا من حيث هو قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدد طرق تفكيرننا وردود فعلنا نحو العالم الذي نعيش فيه وتشكل جزءا لا يتجزأ من سلوكنا وعاداتنا التي نشأنا عليها...ولا شك في أن الدين يدخل في صميم حياة الغالبية العظمى من الناس بهذه الصفة التي وضحت معالمها لا بصفته جوهرا روحيا خالصا تتعلق به قلة نادرة من الناس "(1)
لقد مثل الدين باعتباره مقوم رئيس من مقومات بناء النفسية البشرية مجال بحث أكاديمي شاسع خصه الفلاسفة والنقاد بالبحوث وفي هذا الإطار يتنزل مقال الفيلسوف الأمريكي ويلم جيمس
تحت عنوان ° إرادة الإعتقاد° . وقد دافع فيه كاتبه عن فكرة جوهرية يتعلق مصير الإنسان المعاصر بها أيما تعلق وهي حقه بما يوفره له التطور العلمي من حرية نقد الأديان و البحث بداخلها عما يتطابق مع قناعاته و أفكاره. 
ان دعوة جيمس هذه تؤكد نزعة جدلية مادية في البحث عن أحد مكنونات النفس البشرية كما صورها علم النفس . اذ أنه ها هنا يجادل علماء الدين الذين يدافعون بسذاجة مطلقة عن فكرة وجود المحرك الأول لمعجزة الطبيعة بما فيها من ترابط وتناغم وجمالية ،اذ هم يدافعون بمنطق ميتافيزيقي أجوف عن وجود صانع اول أنتج هذه المصنوعات التي نرى و نعيش فهو يتجاوز ذلك كله و يدافع عن فكرة الانسان الحر عن طريق نفسه وعقله وفكره كمحدد لتكوينه النفسي و الحضاري على أنقاض الأوصياء و المضللين. 
في كتابه "نقد الفكر الديني " تعرض الدكتور صادق جلال العظم الى مسألة جد مهمة تتعلق بمقال ويلم جيميس ارادة الاعتقاد وطرح سؤالا مهما هذا نصه : _كيف نعلل انتقال الإنسان من الموقف الإيجابي الحازم نحو الدين، كما بينه علماؤه وفلاسفته الى الموقف القلق المتردد الذي عبر عنه ويلم جيميس؟"(2)
ينطلق صادق جلال العظم في تشريح تاريخي للدين و ظروف تحولاته الكبرى مجيبا على سؤال طرحه هو بنفسه . ويرصد العظم خمس أسباب كبرى لهذا التحول من موقف الطمأنينة الدينية التي عمرت حياة البشر لآلاف السنوات الى موقف القلق . اول هذه الأسباب :
_ القرن الخامس عشر وحركة النهضة التي انطلقت من ايطاليا لتعم أوروبا.
_الإنقلاب العلمي الذي بدأ رسميا بنشر كتاب كوبرنيكوس عن النظام الشمسي والذي وصل ذروته بنشر كتاب نيوتن « المبادئ الرياضية الفلسفية الطبيعية»
_القرن السابع عشر وانطلاق الثورة الصناعية .
_ صدور كتاب «أصل الأنواع » لداروين سنة1859 وكتال «رأس المال» لكارل ماركس سنة 1867
_ امتداد حصيلة هذه الأسباب الأربعة بعد تفاعلها الى خارج أوروبا و تأثيراتها على العالم العربي خاصة.
ان هذه الحوصلة المكثفة التي قدمها صادق جلال العظم للإجابة على سؤال ويلم جيمس تأخذنا للإقرار بحتمية وجدلية هذا التحول الطارئ على تبدل موقف البشرية من الطمأنينة حيال الأديان الى القلق بشأنها وهذا الاقرار ليس وليد صدفة بل هو نتاج طبيعي لسيروة كاملة من الأحداث التي شكلت في ترابطها قوة نسف لمشروع الفلاسفة الكلاسيكيين أصحاب العقول الموتورة بالإضافة الى العمى الروحي الذي سكن عقول رجال الدين في كل المجتمعات.
   لقد مثل كتابي «رأس المال /أصل الأنواع» نقلة نوعية وطفرة علمية أدت الى إرساء ثقافة علمية على أنقاض الإقطاع الذي تلاشى في جل المجتمعات وانتفى لصالح الرأسمالية وأمام هذا التحول يجد الإنسان المعاصر نفسه محمولا بحكم تأثيرات الثقافة العلمية على طرح سؤالا مهم وهو هل يمكن له أن يقبل بإيمان نمطي ميكانيكي دون خوض تجربة البحث العلمي؟
لفهم هذا الأمر يجب أن نسلط الضوء على واقعنا الديني داخل مجتمعاتنا العربية أين يروج شيوخ التآمر الطبقي معطى جوهري يفاضل الدين على العلم و يضعهما في نفس الكفة كلما اشتد الجدل. فهذا الرأي مردود على أصحابه ولا يسمح لهؤلاء اللاهوتيين المنصبين أنفسهم أوصياء على "الإسلام" أن يدفعوا الناس الى الإعتقاد في الدين هكذا . هم في الأصل يدفون الناس للإيمان إستنادا الى حجج ما لنقل أنها "القرآن" ولكن هذا النص جامد وجد منذ زمن وكان ثوريا في لحظة تاريخية ما من عمر شعبنا العربي ولكنه لم يتطور وان حصل فهو تطور مشبوه عن طريق "الفتوات" . لماذا هذه الفتوات ؟ لأي غاية وجدت؟ 
ان الإنسان المعاصر و العربي منذ عشرينات القرن الماضي يعلم الأسباب فالتحولات الجيو سياسية الكبرى في المنطقة قد ولدت لشعبنا العربي "اله جماعي متسيس"(3).
إن دارس التاريخ الحضاري للشعوب يعلم علم اليقين أن انتصار العلم على الدين عملية معقد و لها إمتدادها الزمني ولا يخفى علينا أن التطور العلمي في أوروبا اليوم جاء بعد صراع حاد بين الدين والعلم امتد لقرابة ثلاث قرون من الزمن. كما يجب أن لا يغفل الإنسان في عالمنا العربي على واحدة من أهم عوامل الانتصار النهائي وهي أن الدين الإسلامي يمثل موروثا حضاريا معقد و محكم البناء من حيث الإمتداد الجماهيري . كما لا يجب أن ننسى ولو بمحض الصدفة انه وفي سيرورة تطور حركة الصراع بين المستقبل التقدمي و الحاضر الماضي الضلامي يعمل الدين كوسيلة إلهاء للجماهير عن قضاياها الرئيسية وفي عالمنا العربي التحرر الوطني وفك الارتباط مع الامبريالية و القطع النهائي مع التبعية الإقتصادية للرأسمال العالمي. في ذات السياق وتأكيدا للشرح أعلاه يقول العظم: " في الواقع أصبح الإسلام الإديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه ،والمرتبطة صراحة ومباشرة بالإستعمار الجديد الذي تقوده أمريكا .''(4)
ان التعارض بين الدين و العلم تعارض في جوهر تشخيص المسائل وتحليلها ، بينما يتكئ الدين على النصوص الأزلية الجامدة والأفكار المفروضة يأخذ العلم طريقا آخر معارض كليا للتفسير العاطفي وهو التفسير المادي الجدلي.
لنأخذ مثال نشوء الطبيعة ، ففي الدين الاسلامي تأخذنا العاطفة لسرد اسطور طرد آدم وحواء من الجنة وتقرنها بكن فيكون الخلقية لتنشأ الطبيعة . أما العلم فهو الحقيقة الوحيدة المثبتة التي تغوص الى عمق الفكرة و تبحث في أسبابها الأولى وفق تفاعلات كثيرة . 
يلخص الفيلسوف والعالم الأنكليزي المعاصر برتراند رسل النظرية العلمية في قطعة أدبية تحت عنوان «عبادة الإنسان الحر» وهذا نصها:
" روى مفستوفليس قصة الخليقة الى الدكتور فاوست قائلا: دار السديم الحار عبثا في الفضاء ،عصورا لا تعد ولا تحصى ثم بدأ يتقولب فخرجت منه الكواكب وبردت فتكونت البحار الغالية ،وارتفعت الجبال واضطربت ومن كتلى الغيوم السوداء هطلت أمطار غزيرة فغمرت قشرة الأرض المائعة وأخذت نطف الحياة تنمو في قاع المحيط وتكبر بسرعة لتشكل أشجار الغابات والنباتات الضخمة ، ثم ظهرت وحوش البحار تتناسل وتتنازع وتبتلع بعضها البعض ثم تنقرض ومن هذه الوحوش تسلسل الإنسان فجاء عاقلا عارفا بالخير والشر ومتعطشا للعبادة....عندئذ ابتسم الله! ولما رأى أن الإنسان بلغ الكمال في نكران الذات وفي العبادة أرسل شمسا أخرى عبر الفضاء اصطدمت بشمس الإنسان فعاد كل شيء الى سديم . نعم أجاب الدكتور فاوست لقد كانت مسرحية ممتعة للغاية سأعيد تمثيلها من جديد..."
هذا المقطع الذي كتبه رسل يجيبنا عن النظرية العلمية في الاجابة عن كل هذه المواضيع : نشوء الكون وتطوره ،نشوء الحياة وتطورها ، نشوء الإنسان وتطوره ، نشوء الديانات وتطورها ، حتمية النهاية.
 هذا باختصار الفرق بين العلم والدين في الاجابة عن المشكلات الرئيسية للانسان المعاصر. وبعد معالجة احدى أهم قضايا الانسان في راهنية تفكيره وارتباطه بالتطور العلمي سنسلط الضوء في مقال لاحق للتخصص في دراسة مدى تأثير الثقافة العلمية على حياة عالمنا العربي ودورها في تحقيق الثورة و تحفيز العقل العربي على الارتباط الكلي والنهائي بالعلم وترك الأساطير.



1- صادق جلال العظم : بحث نشر بمجلة الثقافة العربية ببيروت
2-صادق جلال العظم : نقد الفكر الديني -ص 19
3- المقصود جماعة الاخوان المسلمين و التوصيف لي.
4- صادق جلال العظم _ نقد الفكر الديني ص 23

إرسال تعليق

0 تعليقات