المثقف العضوي و المثقف التقليدي في فكر غرامشي | بلشفيّات

بقلم الرفيق احمد ربعاوي

غرامشي هو مفكر ماركسي و فيلسوف بارز، وأحد أهم قادة ومنظر الحركة الثورية الإيطالية، ولد عام 1891 في جزيرة ساردينيا الإيطالية وعاش في الثلث الأول من القرن العشرين، وهي فترة حاسمة في تاريخ البشرية، حيث برز فيها على مسرح الأحداث عديد من الانعطافات التاريخية الحاسمة، مثل ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا 1917 الأزمة العامة للرأسمالية في عام 1929 وصعود الفاشية الى سدة الحكم في إيطاليا بقيادة الفاشي موسوليني وألمانيا بزعامة الزعيم النازي أدولف هتلر وغيرها من الأحداث التاريخية المهمة.

وقد عاش غرامشي هذه الأحدث مفكرا ومحللا وممارسا في الحياة السياسية والثقافية، حيث أصدر العديد من الصحف والمجلات التي تعنى بمتابعة تطور الحركة التاريخية للطبقة العاملة في إيطاليا والعالم أسهم في تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي. وقد كان نشاط غرامشي مميزا وكثيفا أثناء صعود الفاشية في إيطاليا، الأمر الذي دعا المدعي العام في دولة موسوليني إلى القول اثناء محاكمة غرامشي “يجب أن نوقف هذا الدماغ عن العمل لمدة عشرين عاما”.

سجن غرامشي غير أن سنوات السجن على الرغم مما فيها من حصار ومرض داهم غرامشي أثمرت أهم كتاباته، تلك الكتابات التي جمعت وأخذت اسم “كراسات السجن” ويبدو أن السجن قد أعطى غرامشي فرصة لتحليل الواقع ومراجعة المواقف، فرغم عزلة غرامشي التي كان يعبر عنها في رسائله إلى أمه وهو العمل الثاني غرامشي الذي يحتوي على بعض الخواطر السياسية والرسائل إلى زملائه في الحزب الشيوعي الإيطالي بشكل ضمني، إلا أنه كان يمارس أعلى أشكال التفكير والعمل العقلي.

ويمكن تمييز فترتين في نضال وفكر غرامشي، فترة العمل السياسي والصحافة التوعوية 1916 1926 وفترة السجن 1926 1937. وهذا التمييز لا يظهر اي انفصال بين الفترتين بل يمكن القول أن سنوات السجن رغم صعوبة الظروف وانعدام المراجع التي احتاجتها أبحاثه، إلا أنها كانت فترة مثمرة في تأصيل الموضوعات والأفكار التي قد كان طرحها في كتاباته الصحفية. فقام ببحث في تكوين الروح المدنية خلال القرن التاسع عشر، أي بحث عن المثقفين الإيطاليين وأصولهم وتجمعاتهم وتياراتهم الثقافية ومنهجيتهم المختلفة. كما قام بدراسة وحدة إيطاليا والتفاوت الاجتماعي والتاريخي بين الشمال والجنوب، كما تناول بالدراسة أعمال كروتشه الفيلسوف الإيطالي الذي اعتبرة غرامشي رئيس هيئة الأركان الفكرية البرجوازية الليبرالية.

وهذه الكتابات الفكرية ذات الصبغة التاريخية لم يلجأ إليها غرامشي هربا من أحداث عصره، بل كان وعي غرامشي الحقيقي بقضايا عصره هو الذي دفعه إلى هذا المنهج التاريخي في قراءة الأحداث وبحث مقدماتها. حاول غرامشي في كتاباته أن يجابه بشكل نظري شامل الإشكال الذي فرض على الحركة الاشتراكية بسبب هزيمتها السريعة في أوروبا الغربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، والنهوض السريع للقوى الرجعية الذي لازم هذه الهزيمة

تتبع غرامشي أصل هذة الأحداث ضمن الواقع الاجتماعي والتراث التاريخي لأوروبا الغربية، ليبني بذلك تجديدا هاما في إطار النظرية الماركسية، وقد كان الموضع الحقيقي في هذا التجديد رفض “الاقتصادية” بمختلف أشكالها، أي تغليب المستوى الاقتصادي والوضع الاقتصادي على المستويات الأخرى التي تساهم في نشوء المجتمع وحركته، وبمعنى آخر “النزعة لاختزال مستويات البنية الفوقية المختلفة إلى مرتبة الظاهرة” وقد تسببت هذه النزعة ظهور مفهوم تطور حتمي للتاريخ يجعله محكوما بقوانين موضوعية يتخطى أثرها مجال التدخل الإنساني الفاعل، أي دور الإنسان في تغيير تاريخه وواقعه. وكانت النتيجة كارثية في وجه الأحداث معتمدة علي ايمان اعمى بـ”قوي التاريخ” وانهيار الرأسمالية الحتمي تحت ضغط تناقضاتها الداخلية. رفض غرامشي القوانين الجامدة التي تدعي التحكم بمسيرة التاريخ تحكما صارما، فالتاريخ في نظر غرامشي تطور تراكمي حر وليس “اشكال تم هندستها مسبقا”.

وبهذا المعنى كتب غرامشي أشهر مقالاته “الثورة ضد .. رأس المال” التي ذهب فيها الى أن الثورة البلشفية انتصرت على النظرية الماركسية التقليدية في أحد بلدان العالم المتخلفة من الناحية الاقتصادية. “لقد غلبت الحقائق الأيديولوجيات فالحقائق فجرت الحطاطات النقدية التي كان يتعين أن يتطور التاريخ الروسي في إطارها طبقا لمبادئ المادية التاريخية”، “إن البلاشفة يخطئون كارل ماركس وشهادة العمل الصريح، فهم يقررون أن مبادئ المادية التاريخية ليست مصبوبة من حديد كما ينبغي أن تكون”.

قام غرامشي بدراسة وتحليل التجربة التاريخية الإيطالية كنموذج ملموس كفهم لفشل البروليتاريا الأوروبية وعجزها عن القيام بثورته. فقد أعاد غرامشي بناء التاريخ الإيطالي وتحليل عميق للمجتمع الناتج عنه من وجهة نظره. وركز عمله على فكرتين جوهرتين: علاقة الثورة البروليتارية بالتاريخ الماضي، وتعقد العلاقات والقوى وتشابكها في المجتمع الرأسمالي.

وقد توصل إلى خلاصة مهمة بعد بحث تاريخي مكثف ومعقد في هذين الموضوعين، وهي استقلالية البنى الفوقية وعدم اقتصارها على مجرد أنها بنى تابعة للبناء التحتي. ففي الحالة الأولى كان من الضروري التأكيد على استقلالية البنى الفوقية في علاقتها مع الأساس المادي، عندما أشار الى بقاء الأفكار والقيم والمفاهيم بعد زوال البنى التاريخية التي أوجدتها. وفي الحالة الثانية يرهن البحث على أن الاختزال الكامل للمجتمع البرجوازي برمته ولكل القوى السياسية والثقافية الموجودة الى الأساس الطبقي الذي حددها عمل خاطيء وتبسيط، ومن هنا طور غرامشي نظرته الخاصة بدور المثقفين على أساس سوسيولوجي يحدد تعريف المثقف ووظيفته ودوره بالنسبة للطبقة الاجتماعية، وهو ما أسماه بالمثقف العضوي كما أقام تعريفا آخر يستند على النظرة التاريخية ويتعلق بتحديد المثقفين على أساس المكانة التي يشغلونها داخل السيرورة التاريخية. ويسمي غرامشي المثقف المرتبط بطبقات زائلة أو في طريقها الى الزوال بالمثقف التقليدي.


 المثقف العضوي والمثقف التقليدي :



وفي تعريفه للمثقف، في غرامشي يرفض تماما التقسيم الشائع للمجتمع فئتين: الشغيلة اليدويين والشغيلة المفكرين “فكل عمل يدوي أو عضلي حتى لو كان ميكانيكيا يتطلب قدرا من المهارة، أي حد أدنى من النشاط الفكري، إنما يربط غرامشي المثقف بطبقة هو عضو في جسدها. وكما أنه من المستحيل حسب غرامشي الحديث عن “لا مثقفين”، لأنه لا وجود لهم. فكل إنسان مهما كانت المهنة التي يعمل بها، “يمارس نوعا من النشاط الثقافي، أي أنه فيلسوف فنان، إنسان متذوق، يشارك في تصور ما عن العالم، أي يثير سبلا جديدة في التفكير. ولكن عندما يتحدث عن المثقفين فهو يحصر المفهوم في أناس محددين يؤدون وظيفة محددة لهم خصائص مميزة. وهذة الوظيفة حسب غرامشي تتضح في عباراته:


“ان كل فئة (طبقة) اجتماعية ترى النور في باديء الأمر على أرض وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي فتخلق عضويا، في نفس الوقت الذي ترى فيه النور شريحة أو عدة شرائح من المثقفين الذين يزودونها تجانسها وبوعي وظيفتها الخاصة، لا في المضمار الاقتصادي فحسب وإنما في المضمار السياسي والاجتماعي أيضا. هَؤُلاء المثقفون المرتبطين بظهور طبقة اجتماعية أساسية هم المثقفون العضوية، وتكمن وظيفتها في تكوين تجانس فكري للطبقة الاجتماعية التي يمثلونها، لا في قدرتهم على تشكيل تصور للعالم خاص بتلك الفئة، وفي نقدهم كل الأيديولوجيات السابقة لظهور تلك الطبقة”.

وظيفة المثقف العضوي حسب غرامشي إذن هي تحقيق تصور للعالم أو أيديولوجيا خاصة بالفئة أو الطبقة التي يرتبط بها عضويا، وان يجعل هذا التصور يطابق الوظيفة الموضوعية لتلك الطبقة في وضع تاريخي معين، كما تكمن وظيفته أيضا في الجانب النقدي من نشاطه الفكري، الذي يحرر تلك الأيديولوجيات من الأفكار السابقة لظهورها.

وأيضا للمثقفين استقلالها النسبي عن الطبقة التي يرتبطون بها، المثقف العضوي ليس انعكاسا للطبقة الاجتماعية بل يعود استقلالهم الذاتي الى وظائفهم منظمين ومرتبين ومحققي تجانس للوعي الحقيقي. كما أن الاستقلال الذاتي للمثقف ينشأ بوجه خاص عن المنظمات التي يعملون في إطارها، فهم مرتبطين بالطبقات من خلال المنظمات المرتبطة بتلك الطبقات، ومن جهة أخري وجود هذه المنظمات بالذات قد يحدث من جهة أخرى فجوة ما بين المثقفين والطبقات الاجتماعية.

ومقابل الشكل الأول من المثقفين، أي المثقفين العضويين المرتبطين بطبقة اجتماعية والذين يعملون علي اعطائها التجانس الأيديولوجي، يقيم غرامشي مفهوما آخر للمثقفين يعتمد على أساس الرؤية التاريخية لتكوينهم. وهو ما أسماه بـ المثقف التقليدي، أي المثقف الذي ينتمي الى طبقات اجتماعية زائلة أو في طريقها الى الزوال. يقول غرامشي محددا مفهومه هذا “ولكن كل مجموعة اجتماعية نشوئها في تاريخ البنية الاقتصادية السابقة لها و كتعبير عن تطور تلك البنية وجدت على الأقل في التاريخ المعروف حتى الأن، فئات مثقفين موجودة قبلا، بل وكانت هذه الفئات تبدو كممثلة لاستمرارية التاريخ غير المنقطعة وحتى من قبل التحولات الأكثر تعقيدا وجذرية الأشكال السياسية والاجتماعية”.

ويعتبر غرامشي رجال الكنيسة الذين احتكروا لزمن طويل بعض الخدمات الهامة، مثل الأيديولوجيا الدينية، والفلسفة والعلوم في ذلك العصر، يعتبر هؤلاء الممثلين النموذجيين عن المثقف التقليدي.

و نظرا لأن هذة الفئات المختلفة من المفكرين، أي المثقفين التقليديين تشعر “بروحية الجسد” واستمراريتها التاريخية غير المنقطعة و”بأهليتهما” فهي تظهر نفسها باعتبارها مستقلة عن المجموعة الاجتماعية المسيطرة. ولا يبقى هذا الموقع الذاتي بلا نتائج في الميدان الأيديولوجي والسياسي، وهي نتائج متباينة الأهمية، ويمكن بسهولة ربط كل الفلسفة المثالية بهذا الواقع الذي افترضته الفئة الاجتماعية للمثقفين، ويمكن تسميته بالتعبير عن هذه الطوباوية الاجتماعية التي بموجبها يظن المثقفين أنفسهم مستقلين قائمين بذاتهم.

ويرى غرامشي أن قدرة أي طبقة اجتماعية علي الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع تكمن في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها وكذلك في قدرة هذه الطبقة على استيعاب المثقفين التقليديين المنحدرين من فترات تاريخية سابقة. “إن واحدة من أهم السمات المميزة لكل فئة تسعى الى الوصول الى السلطة هي النضال الذي تخوضه لكي تتمثل وتستوعب أيديولوجيا المثقفين التقليديين، وهذا التمثل والاستيعاب يتمان بسرعة وفعالية أكبر إذا قامت الفئة المشار إليها بإجراء مزيد من التغيير في صفوف مثقفيها العضويين”.

ويرجع غرامشي فشل الطبقة البرجوازية الإيطالية وعجزها عن إنجاز مهامها التاريخية الى أنها لم تستطيع أن تتخطى مصالحها الاقتصادية والحرفية كي تقيم بنية فوقية سياسية وأيديولوجية مطابقة لمصالحها الاقتصادية. فعلى الرغم من ظهور البرجوازية الإيطالية في وقت مبكر في القرن الحادي عشر، غير أنها لم تستطع أن تنجز ثورتها إلا بعد قرن من الثورة البرجوازية الفرنسية، فشلت البرجوازية الإيطالية في تكوين بنية سياسية وأطر ثقافية. فقد عجزنا أمام سلطة الكنيسة الدينية التي تتجاوز الحدود القومية، أن تنشئ سلطة معاكسة تنشأ على أساس الوحدة القومية الإيطالية على غرار ما فعلته البرجوازية الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكذلك لم تستطع البرجوازية الإيطالية خلق شرائح من المثقفين العضويين مثل البرجوازيات الغرب أوروبية الأخري، ووجدت نفسها معزولة أمام المثقفين التقليديين، أي رجال الكنيسة بل أنهم استطاعوا أن يعيقوا البرجوازية عن اداء مهمتها وتأخيرها عن الوصول إلى السلطة لعدة قرون.

الهيمنة الثقافية :


التحليلات الخاصة للمثقفين ووظيفتهم في المجتمع التي قام بها غرامشي قادته الى نتيجة مهمة: وهي ضرورة الهيمنة الثقافية من أجل نجاح أية سلطة. وهو يربط قدرة أية طبقة اجتماعية على السيطرة على الحكم بقدرتها على تكوين هيمنة ثقافية خاصة بها “إن تفوق مجموعة اجتماعية معينة يظهر بطريقتين اثنتين، كسيطرة كقيادة فكرية ووجدانية. في المجموعة تكون مسيطرة على المجموعات الخصم وتميل إلى تصفيتها أو إخضاعها حتى بواسطة القوة المسلحة وتكون قائدة للمجموعات المتحالفة أو المتعاطفة معها، ويمكن للمجموعة الاجتماعية بل يجب عليها أن تكون قائدة حتى قبل الاستيلاء على السلطة الحكومية، أما بعد ذلك، عندما تمارس السلطة وحتى لو حافظت عليها بقوة في قبضتها، فإنها تصبح مسيطرة ولكن عليها أن تستمر في أن تكون قائدة أيضا” وفي هذا التحليل بقدم غرامشي أهمية الهيمنة الفكرية في تثبيت وضمان السلطة والقيادة.

وقد أضاف غرامشي على مفهوم الهيمنة عند لينين الذي أشار الى وظيفة الحزب في الاستيلاء على السلطة، فإلى جانب القيادة السياسية التي يستحوذ عليها الحزب أو ما سماه غرامشي”الأمير الحديث”، ينبغي أيضا إيجاد قيادة ثقافية تستطيع إنجاز الإصلاح الأخلاقي والثقافي. ويعطي غرامشي أهمية كبيرة لموضوع الهيمنة الثقافية توازي أهمية السيادة والسيطرة الاقتصادية والسياسية.

“إن البروليتاريا لابد أن تطرح جنبا الى جنب مع مشكلة غزو السلطة الثقافية، لابد أن تفكر تماما كما فكرت في تنظيم نفسها من أجل السياسة والاقتصاد في تنظيم الهيمنة الاشتراكية الهادفة الى كسر الوحدة القائمة على الأيديولوجيات التقليدية، الكسر الذي بدونه لن تستطيع البروليتاريا وعي شخصيتها المستقلة” ومن خلال نقده لفكر كوتشه يؤكد غرامشي أهمية الدور الثقافي في النشاط العملي. ويشدد على الناحية التربوية للاشتراكية، أي التوصل الى ثقافة كلية ومتكاملة، أي خلق حضارة جديدة عبر تحويل واسع للوعي. وهنا يظهر تميز غرامشي داخل الحركة الاشتراكية الإيطالية ذاتها، تأكيدا على الدور الثقافي والهيمنة الثقافية يقف على نقيض من أفكار الاشتراكي الإيطالي بورجيا التي اتسمت بمعادة الثقافة والمثقفين، متأثرا ومتجها نحو تدعيم أفكار لابروير الذي اعتمد الممارسة الثقافية الممارسة الأهم.

ويؤكد غرامشي أن تشكل طبقة ما يساوي خلق رؤية شاملة “إن لم تكن لدى الطبقة هذا القطاع من المثقفين في حزبها الأمير الحديث الذي هو أداة تركيز وتوجيه وصقل هذه الرؤية، لن يكون بمقدورها تطوير إرادة جمعية تمكنها من السير حثيثا على طريق الثورة. هدف الثورة خلق دولة، وخلق دولة جديدة يعني خلق مجتمع مدني جديد بالاستيلاء على جهاز قمعي: الهيمنة إذن دولة بالقوة” وتأكيد غرامشي على أهمية الهيمنة الثقافية نابع من مفهوم للثقافة والفلسفة بشكل عام، ومن وحدة النظرية والممارسة لديه، فالمبدأ الإبستمولوجي الأساسي لدى غرامشي هو وحدة النظر والعمل. وحسب امشي فإن كل معرفة لا يمكن أن تنفصل عن تبديل الإنسان لواقعه. وهذا الجانب من النظرية مواكب جانبها التاريخي. وكل نظرية تتطور بحسب علاقتها الجدلية والتجريبية، وهذا العمل هو البراكسيس الذي طوره غرامشي.

و الفلسفة عند غرامشي ليست مجرد تصور للعال، بل هي أيضا عمل من أجل تغيير هذا العالم. فلقد جعل ماركس دور الفلسفة ليس الوصف إنما العمل على التغيير أو قلب النظري الى عملي أو تحويل العقلي الى واقعي. إن العنصر الأساسي في فكر غرامشي هو اتحاد الفلسفة بالتاريخ وفي نظرة النظرية التي لا تتحول الى واقع تاريخي هي مجرد طوباوية.

أما العلاقة بين البنى التحتية والبنى الفوقية فهي ليست علاقة آلية ومباشرة في نظر غرامشي. حيث يتساءل غرامشي “إن مصنعا ينتقل من السلطة الرأسمالية الى سلطة العمال سوف يستمر في إنتاج الأشياء المادية التي ينتجها اليوم. ولكن بأية طريقة وفي أية أشكال سوف تولد الأعمال الشعرية والدرامية والروايات والموسيقى والتصميم واللغة …”.


وفي الوقت على الذي يرى غرامشي فيه العلاقات الاقتصادية محركا للتاريخ، فإنه من جهة أخري يؤكد على ما للوعي من أهمية في تغير البنى الاقتصادية. ويقول “إن وعي العلاقات الضرورية، أي أن نعرف بقدر أو بأخر الطريقة التي يمكن تغيير صاحبها بتغييرها سلفا. العلاقات الضرورية ذاتها، بقدر ما نعرف في ضرورتها تتغير مظهرا وأهمية. وبهذا المعنى فإن المعرفة مقدرة. وهكذا يتطلب تحول البنى الاجتماعية الى صراعات موضوعية، ولكنه يتطلب أيضا الوعي وإرادة حل تلك الصراعات. وبدون المثقفين لا تحويل، فالحرية عنصر جوهري في السيرورة التاريخية، أما الضرورة المفردة أو الحتمية الميكانيكية بين البناء التحتي والبناء الفوقي، ويرى غرامشي أن هذا الاختزال هو أحد نتائج الابتذال الاقتصادي للماركسية. “تخسر الماركسية في شكلها الراقي الأكثر انتشارا، الكثير من قابليتها للتعدد الثقافي في الدائرة العليا من الفئة المثقفة، مقابل ما تكسبة لدي الجماهير الشعبية ولدى المثقفين العاديين الذين يحبون الظهور وكأنهم شديد والخوف لكنهم لا يعتزمون زيادة الحمل على أدمغتهم. وكما كتب انجلز فمن الملائم جدا لكثير من الناس الظن بأن لديهم في جيوبهم مجمل التاريخ، كل الحكمة السياسية والفلسفية المركزة في صيغ قليلة بدون أدنى جهد أو كلفة”.

تكمن قوة وفعالية فكر غرامشي في منهجه التاريخي الواعي بالأحداث الدائرة. فقد عاش غرامشي في بلد نصف متأخر، وحدته القومية غير مكتملة، فإيطاليا منقسمة اقتصاديا إلى شمال وجنوب، والاقتصاد الايطالي متفاوت التطور، ففي الشمال تتمركز الرأسمالية والطبقة العاملة الإيطالية وفي الجنوب يتمركز ملاك الأراضي والفلاحون.

وقد شغلت مسألة الجنوب جانبا كبيرا من اهتمام غرامشي. وكان اهتمامه الأكبر هو دمج الجنوب مع الشمال في وحدة اقتصادية متجانسة وتحويل المثقفين الريفيين الذين هم في غالبيتهم تقليديون إلى مثقفين عضويين بدمجهم في حركة التصنيع الناهضة في الشمال. لقد أدرك غرامشي أن التطور الطبيعي للوضع في إيطاليا لن يؤدي الى نتائج ايجابية وأن الاشتراكية في إيطاليا لن تنتصر بانتظار توفر العوامل الاقتصادية الملائمة، لذلك أكد على جانب الإرادة الذاتية وركز على دور الحزب في تحقيق أمر التطور المطلوب.

إن تاريخية عمل غرامشي هو تجديد ثوري على النظرية الماركسية. ومن خلال عمل غرامشي النقدي لمختلف التيارات في عصره تتأكد مسيرة هذا التجديد. ويقدم غرامشي نموذجا حيا على ربط النظرية بالممارسة فرغم أن أهم عمل له كتب وهو في السجن إلا أننا نجد أن كل الكتابات المجموعة في كتاب دفاتر السجن هي عبارة عن عمل فلسفي متجانس قام به غرامشي ضد كل التيارات التي سادت الحركة الاشتراكية في إيطاليا وقد أدى ذلك لعدم انتشار فكر غرامشي بشكل جيد إلا بعد فترة طويلة من وفاته عام 1937.


مصدر

أنطونيو غرامشي.. المثقف العضوي _

إرسال تعليق

0 تعليقات