إقرؤوا مهدي عامل | بلشفيّات

بقلم الرفيق غدي صالح

من البديهي إعتبار مهدي عامل من أهم الشخصيات الفكرية الماركسية -العلمية التي طبعت النصف الثاني من القرن العشرين إلى حين اغتياله في ١٨ أيار ١٩٨٧، وممن ساهموا في نشر الفكر العيني، فهمدي أودع المكتبة الفكرية العربية إرثاً فكرياً ونظرياً قيّماً، وهذا الإرث كفيل لإعتباره مادة حيّة لنقد أوضاعنا القائمة. فأعمال مهدي شرّحت البنى الاجتماعية العربية كما الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما أشكال بنيانها السياسي- الديني بنهجٍ علمي– ماركسي لم يتقادم بعد عليها الزمن. 
ما أراده مهدي في كتاباته، في جولاته التثقيفية التحريضية، وما أراده من بقائه في بيروت مبتسمًا ساخرًا من مغتالي الفكر النقدي الثوري، ما أراده ما يزال راهنًا. فمهما علت أصوات “الانتصارات” المجلجلة لحركات ظلامية الجوهر او لأنظمة “تقدمية” او قمعية، ومهما تعاظمت الدعوات الى نبذ الأيديولوجيات واعلان موتها وإنتهاء التاريخ او الانسان، ومهما توسّع الفكر الرجعي أفرادًا و نُظُمًا اوالتبعي الموهوم أنساقًا فكريةً تتخفّى خلف قناع الحداثة واللبرلة والديموقراطية وحتى “الماركسية”، تظلّ لأطروحات مهدي عامل بجوهرها الحي راهنيتها الحاضرة والمُستشرِفة مستقبلاً، تقرأ الحاضر وتؤسس للغد.
إذاً، تضعنا الكتابة عن مهدي عامل، بما هي محفوفة بالأخطار، أمام معضلات عدة: أهمها القدرة على مسايرة الحالة الثورية في فكره، دون السقوط في خطاب أيديولوجي مساير أو مناوئ، مخافة جعل القراءة الموضوعية المطلوبة والضرورية، مجرد غطاء لانفعال ذاتي يفتقر إلى أي رصانة معرفية. 
في الوقت نفسه، تثير فينا كتابات عامل، من ناحية الشكل، رهبة هائلة بسبب جمالها المهيب. تتسارع دقات القلب قليلًا، مع رعشة عرضية في الأطراف، وأحيانًا يعصف بالجسد ألم فجائي. كل هذا جراء قدرة عامل المبهرة على اللعب باللغة، كأنها أنثى تتغنج بشاعرية مفرطة تارة، وكأنها قذيفة تضرب بِنَى اللغة التقليدية تارة أخرى، فتدمِّر وتمحي ما كان منها، شكلًا ومضموناً. أراد مهدي عامل أن يبني نظرية عربية للثورة قائمة على المعرفة والعلم، كما شهد بذلك الجميع: مريدوه ومناصروه ومعارضوه، فالعلاقة بين النظرية والواقع، أو بين الفكر والممارسة لها الأولوية، فهي من بداهات الفكر الثوري ومن اساسيات تراكم الخبرة الثورية، لكن خصوصية مهدي عامل تكمن في أنه اجتهد لبلورة صيغة العلاقة واضعاً إياها في مركز فكره من ناحية، هادفاً إلى إنتاج معرفة علمية بروليتارية، متجاوزة "الفكر المتكون" ومسلمات الماركسية السائدة في العالم العربي من ناحية أخرى. 
فقد رفض كثير من المقولات والفرضيات التي ترسخت في ثقاقتنا العربية الحديثة عن الماضي والحاضر، الغرب والشرق، العقل والقلب، كاشفاً وراء هذه الثنائيات المثالية للفكر البرجوازي، حقيقة الصراع الفكري، الطبقي، الكامن في الواقع، كما رفض الواقع الظاهري التجريبي الذي يحجب حقيقة العلاقات الاجتماعية ويخدم في النهاية مصلحة الطبقات السائدة. 
عالج الشهيد الراحل مهدي عامل فكرة البنية في كثير من كتاباته، وفي هذا الجانب تناول المفكر الراحل محمود العالم مفهوم البنية عند مهدي عامل، قائلاً: إن البنية عند مهدي ليست مغلقة، مثل بنية المذهب البنيوي، بل بنية علاقات اجتماعية تحكمها تناقضات مختلفة متفاوتة، إلا أنها بسبب أولويتها المطلقة تقلص التفسير إلى العناصر الداخلية للبنية الاجتماعية في علاقتها – البنيوية أيضاً- بالمركز الإمبريالي، متجاهلة عناصر الامتداد التاريخي وعناصر التفاعل بين القطع والاستمرارية. بالإضافة، في كتابه "نقد الفكر اليومي"، الذي طبُع بعد اغتياله، والذي كان قد بدأه في العام 1980 في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، مسجّلاً فيه ومساجلاً وناقداً كتابات مفكرين ومثقفين لبنانيين وغير لبنانيين ممن كانوا يكتبون في الصحف اليومية والدوريات، مشدّداً على ضرورة نقد هذا الفكر اليومي في حينه لكشف ملابساته وموقعه الحقيقي مما يجري من أحداث. ولم يوفّر في كتابه هذا أحداً من الكتّاب والمفكرين المحسوبين إن على القوى الوطنية، كما على الفكر القومي والبورجوازي والمنزلقين الى الفكر الطائفي. ميّز مهدي عامل بين نمطين من التيارات الفكرية التي اتّخذت حيّزاً واسعاً من الصفحات الثقافية اليومية والدوريات: تيار الفكر اللابس وجه الفكر العدمي، وتيار الفكر الظلامي. مع تمييز بينهما، وتداخل، الى حد الانصهار من حيث موقعهما في الفئات الوسطى، وفي انزلاقهما الى مواقع القوى المسيطرة. يعلنون بحسب عامل موت السياسة باعتبارهم إياها كطرف ثابتٍ في أي معادلة كانت إن مع الثقافة، أو الشعر، أو النقد، أو الأدب، أو الحياة والحرب، مما شكّل مادةً لرفضها برفض التاريخ. فهي وجه الموت، وكيف يموت صراع تتولّد منه الحياة؟ هي نقطة الصفر التي ينطلق منها هؤلاء، ويتغلّب على فكرهم الشكل العدمي، او اللابس الشكل العدمي المؤدي الى العدم السياسي الذي يتلقفّه الفكر المسيطِر في عملية إخضاعٍ للوعي، ويُدخله في تحالفٍ غير مرئي معه. ففكر كهذا، برفضه الفكر المسيطر والفكر المقابل له، الثوري، إنمّا ينزلق الى الفكر المسيطر الذي هو نقيض الفكر الثوري، ليحلّ محل الصراع الاجتماعي في الفكر والسياسة، صراع غيبي بين النظام وعدمه، بين الفكر وعدمه. أما وجوده خارج كل المواقع المنتجة للمعرفة، رافضاً لها، فيجعله فكراً ينتج صفراً في فهم عملية الصراع، الذي به يتأمّن تجديد السيطرة. 
أما أتباع الفكر الظلامي، فإن كتاباتهم ونقدهم الواقع تتحوّل الى نقدٍ للفكر الماركسي بالذات في كل المجالات السياسية والتاريخية والفلسفية. فهم يقدّمون رؤيتهم إنطلاقاً من "خصوصيتهم"، ويرون التاريخ كحركة صراعٍ بين الذات والآخر، ويختزلون حركة التحرر الوطني في حركة استرداد "الذات الضائعة". ومنطق هذا الفكر يقوم على أساس الانفصام بين الشرق والغرب، حيث إن لكل منهما ثقافته. فللشرق الثقافة التقليدية والأصالة التي هي من حظ الجماهير دون النخبة، وللغرب الحداثة دون الأصالة التي هي من حظ النخبة دون الجماهير. إن هذه الثنائية تغرّب المثقف الحامل للثقافة الغربية، وتجعله بلا هوية، وتلغي كل صراعات حركة التاريخ، وتستبدلها بحركة وهمية لصراع الذات مع الآخر، أي، صراع "الجوهر" مع" الجوهر" الآخر، به تتجوهر حركة التاريخ الذي لا يتغيّر منذ بدايات الاسلام حتى الآن. لقد نقد مهدي عامل فهم هؤلاء للماركسية الذي لا علاقة له بالماركسية، من حيث إحلال العامل الايديولوجي- الديني، مكان العامل الاقتصادي الذي هو في الحقيقة ليس العامل الأول في البناء الاجتماعي، بل العامل المحدِّد للعوامل الأخرى التي يتحدّد بها. كما نقد فهمهم للصراع بأنه صراع ديني بينما هو صراع اجتماعي يتخّذ شكلاً دينياً له. وأكمل نقده لما سمّاه تناقض في الفكر بحسب الحدث اليومي عند بعض، وتأرجحه بتأرجحه، ولو كان نقيضاً له، وكأن مراحل التاريخ عنده هي الأحداث بذاتها، جاعلاً من منهجه منهجاً وصفياً تفسيرياً، يتموّج في استعادة لهوية أصلية يُبرز صراعاته الداخلية، ومعبّراً عن تناقض فكري يجمعه في فكر واحد. هذا النمط من الفكر، إنما يعمد الى إلغاء كل اختلاف مع الفكر الآخر، ويلغيه، ليظهر في المحصّلة أنه لا يستطيع مجابهة الفكر الماركسي.  
نهايةً، وبناءً على ما تقدم، كان لمهدي أعداءً أطلق عليهم اسم "الظلاميون"، اغتالوا مهدي عامل، برصاصات ما زالت حتى اليوم تغتال بصيغ مختلفة ما أراده مهدي من حزبٍ ثوريٍ، وممارسة سياسية طبقية مستقلة وفكرٍ نقدي تفتح الدرب أمام خطوة الانتقال من مجتمع أنظمة القمع والاغتراب والسلعية والأزمات الدورية إلى مجتمع الأنظمة الإنسانية الحرة الديموقراطية.

إرسال تعليق

0 تعليقات