بقلم الرفيق ايهاب المالكي
تعاظمت في السنوات الأخيرة ظاهرة فبركة التماثل بين الشيوعية والصهيونية، كجزء من التلاعب الدعائي الغربي والرجعي العربي الذي ما يزال يركّز في حربه النفسية على الشيوعية بعد مرور ربع قرن على انهيار الكتلة الشرقية، علماً بأن التنافر القائم بين الشيوعية والصهيونية حادّ وقطعيّ، ويطول نشأة كلّ منهما، وطابعها وبنيتها ومسار تطورها وغايتها ونتائجها، ولا يحتاج هذا التنافر أصلاً إلى تأكيد لولا قوة تأثير ذلك التلاعب بوعي الناس.
فالشيوعية نشأت في الأربعينيات من القرن التاسع عشر بقوة الاحتياجات التاريخية الملحّة، وتلبية لمتطلبات طرحها التطور الموضوعي للمجتمع وللمعارف الإنسانية، وانعطافاً ثورياً في تطور الفكر الفلسفي، بينما نشأت الصهيونية في الستينيات من القرن ذاته كردّ من ردود الطبقة الرأسمالية في طور انتقالها إلى الامبريالية، زمن اشتداد الصراع الطبقي وضرورة توطيد ودعم هذه الامبريالية الصاعدة لجميع القوى الرجعية التي تحارب بهذا الشكل أو ذاك حركة نهوض الطبقة العاملة.
كما بنيت الشيوعية كنظرة شاملة إلى الإنسان والتاريخ، والفرد والمجتمع، والطبيعة والوجود، وحللت تحليلاً شاملاً النواحي النظرية والتطبيقية التي تعبر عن متناقضات العالم وقضاياه، واقترحت الحلول العقلية لهذه القضايا والمتناقضات. والأساس البنائي العلمي للشيوعية هو المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية التي يستحيل معها الارتكاز على الفرضيات عن الموت والروح وما وراء الطبيعة وعدم إمكانية ربط ذلك بمبادئ تنظيم شؤون الدولة وضبط أمور الكيان الاجتماعي، بينما بنيت الصهيونية كنظرة مثالية متذبذبة ما بين العرق والدين، والأساس البنائي لها هو المال اليهودي الكبير (عائلة روتثشيلد ) واللامعقول والاختلاقات الأسطورية والخرافات التوراتية والشوفينية النزّاعة للحرب والعدوان.
* الشيوعية رأت أن مصدر العيوب الأخلاقية هي ظروف الحياة اللاإنسانية في العالم الرأسمالي، لذلك فقد أوجدت المخرج من العبودية الروحية، وأعطت لأول مرة في التاريخ قاعدة منسجمة من أجل الممارسة العملية لإعادة بناء العالم على أساس القضاء على الظلم الاجتماعي وعلى استغلال الإنسان للإنسان وحملت للعالم أفكاراً نبيلة ملهمة توطد السلم والعمل والحرية والمساواة والأخوّة والسعادة لجميع الشعوب. بينما الصهيونية وهي ثمرة من ثمار العالم الرأسمالي رأت في تأكيد ذاتها كأداة من أدوات هذا العالم الرأسمالي الوسيلة التي تمكّنها من تحقيق مآربها العنصرية للشعب اليهودي على حساب الشعوب الأخرى وخاصة الشعب الفلسطيني، والوقوف في وجه تطور العالم واعادة بنائه، وذلك بإحياء الدعامات الروحية الرجعية والأفكار الخادعة والأوهام المرضية للعالم القديم الزائل، والدوس على القيم والمبادئ الانسانية والأخلاق وتكريس صراعات العالم وأزماته وتخلفه. فهاته المقارنات تؤكد استحالة التماثل و الدمج بين الشيوعية و الصهيونية.
الا ان الشيوعية عانت من سعي الصهيونية و الماسونية الدائم لدسّ عملائها داخل صفوفها و قد خاضت صراعا مريرا و قاسيا ضد التغلغل من ما قبل المخاض الأول للثورة في روسيا 1905 و خلالها و عبر مسار تطورها و حتى آخر يوم من عمر الاتحاد السوفياتي.
ففي عام 1917 فقد دخل نضال البلاشفة ضد القومية البرجوازية اليهودية والصهيونية طوراً عملياً جديداً بالدعوة لخروج العمال اليهود من الأحزاب التابعة لتلك القوى التي تقطع طريق الثورة وتضر مصالح الجماهير، بينما شجب الكونفرنس المنعقد في موسكو من 20 الى 27 تشرين الأول عام / أكتوبر 1918 قطعاً التعصب القومي والديني اليهودي، وأغلق عام 1919 المكتب المركزي للطوائف اليهودية وحُلّت جميعها كما حُلّت المنظمة الصهيونية (اتحاد المحاربين اليهود) على جميع أراضي جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية.
و في عام 1922، أُقرّت في الجلسة العامة للمؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوفييتي مادة ثابتة في دستوره ودساتير سائر الأحزاب الشيوعية العالمية هذا بعض ما جاء فيها :
– الماسونية تتنافى مع الاشتراكية.
– المؤتمر يفوض اللجنة المركزية للحزب الشيوعي خلال مدة غايتها أول كانون الثاني 1923 لتصفية كل صلاه قائمة بين الحزب وأعضائه والماسونية.
– كل شيوعي كان قد انضم الماسونية بتاريخ سابق الإعلان بالصحف قبل كانون الثاني 1923 عن انسحابه الكامل من الماسونية، وفي حال عدم الإعلان التام سيطرد هذا العضو من صفوف الحزب أوتوماتيكياً دون أن يكون له الحق في إعادة انضمامه إلى الأبد.
– في حال اكتشاف كتمان أحد الأعضاء الشيوعيين لعضويته في الماسونية اعتباره خائناً ومن أعداء الحزب والدولة.
و في عام 1924, توفي الرفيق فلاديمير لينين بعد سنوات من المعاناة أثر الجروح التي لحقت إصابته بطلق ناري من طرف امرأة يهودية حاولت اغتياله. و قد تلقى في اليوم نفسه برقية وردن إلى الكرملين من بيتروغراد تفيد بأن رئيس لجنة مكافحة أعداء الثورة الرفيق أوريتسكي قد اغتيل و قبله كان قد اغتيل الرفيق فولودارسكي.
و في عام 1933، صدر كتاب المفكر الشيوعي اللبناني سليم خياطة (حميّات في الغرب) وهذه بعض المقاطع منه: (العرب… تعاملوا مع المسألة الصهيونية وسواها بتأجيل النظر في الخطر المحدق ثم حلموا بالخلاص)- ص45. / (الصهيونية وطنية يهودية مستعمرة، بينما الشيوعية فكرة عالمية إنسانية تدعو فعلاً وتطبيقاً إلى أخوية الشعوب والبشر وتحارب الاستعمار على أي شكل تمثّل. ومن ظواهر هذا العداء الأول ما وقع عقب الثورة الروسية من اغتيال اليهودي الرجعي ليونيد كانيجيسر للشيوعي اليهودي أوريتسكي ومن محاولة دورا كابلان اليهودية إطلاق النار على لينين زعيم الثورة مما عجّل في موته)- ص53. / (يجب أن يفهم العرب أن من خلق الصهيونية إنما هو المتمول اليهودي المتحد مع الحاخام، الراشيان الزعيم العربي الإقطاعي)...
كما صدر عام 1989 عن دار التقدم في موسكو كتاب (الصهيونية على حقيقتها ) للكاتب الاختصاصي السوفييتي دادياني، والكتاب بحث ماركسي شامل في الصهيونية من الناحية التاريخية منذ لحظة ولادتها في روسيا القيصرية وحتى أيامنا، ويتضمن الكتاب فصلاً بعنوان الأحزاب الاشتراكية الصهيونية واستعمار فلسطين، وفيه كل المعلومات عن كل الأحزاب الصهيونية التي تقنعت بالماركسية في فلسطين (ليس بينها الحزب الشيوعي الفلسطيني)، أنقل بعض ما جاء فيه: (النضال ضد الحزب الشيوعي الفلسطيني كان دائماً هدفاً من أهداف الاشتراكيين الصهاينة، وفي معرض صياغة هذا الهدف، قال كاتسنلسون، أحد أيديولوجيي وزعماء أحدوت هآفودا : علينا أن نستنهض ثورة ضد الثورات التي سبقتنا، ضد أولئك اليهود الذين صاروا عبيداً للثورة الروسية بمن فيهم الحزب الشيوعي الفلسطيني)- ص141.
إضافة إلى ما تقدم صدرت في سورية ولبنان الكثير من المطبوعات لشيوعيين وغيرهم، ومنها ما ورد في كتاب الدكتور لطف الله حيدر (الصهيونية وفلسطين)- ص32 الصهيونية وقفت ضد جميع حركات التحرر والتقدم والثورة في أي بلد من بلدان العالم وفي كتابات رواد الاستعمار والإمبريالية من جهة وزعماء الحركة الصهيونية من جهة أخرى الأدلة القاطعة والبراهين الصريحة الواضحة على اضطلاع الصهيونية منذ نشأتها بهذه المهام وفي الكتاب عرض لمقتطفات هامة من تلك الأدلة.
و عند الغوص في هاته المسألة لا يمكن أن نتجاوزها دون الرأي الماركسي الذي يرفض التعامل مع اليهود كقومية، بل يتعامل معهم كمواطنين، يفترض اندماجهم في اممهم علمنية علمنة الدولة وتكريس حريّة المعتقد الديني، رغم أن هذا الموقف صحيح ومهمّ. ولاشكّ في أن رفض الرأسماليات الأوروبية لهذه المسألة هو الذي جعلها تُصدِّرها إلى الوطن العربي، عبر فرض تهجير اليهود إلى فلسطين. وبالتالي لتتحوّل " المسألة اليهودية " من مشكلة أوروبية إلى مشكلة عربية، أي دون أن تُحلّ. وكانت مصالح الرأسمال هي التي فرضت التخلّص من الفقراء ( ومنهم قطاع مهمّ من اليهود ) من جهة، وتحويلهم إلى جنود في جيش الإمبريالية، و لخدمة مشروعها في الوقت نفسه من جهة أخرى.
هذا الوضع أبقى المشكلة اليهودية، ودمجها بالمشروع الإمبريالي، رغم أن الدول الأوروبية كانت قد أصبحت علمانية منذ بداية القرن العشرين. وبالتالي باتت هذه المشكلة بحاجة إلى حلٍّ علمانيّ على المستوى العالمي، وفي الوطن العربي خصوصاً، بعد أن تشكّلت الدولة الصهيونية على أساس الدين اليهودي، الأمر الذي يعني إلغاء الدولة بصفتها دولة دينية.
لم يعد النزاع العربي الصهيوني كما كان من قبل عقود، و تحديدا عندما قاطعت الدول العربية مصر، و علقت عضويتها لسنوات من الجامعة العربية غداة توقيعها اتفاق "كامب ديفيد" مع الكيان الغاصب، فبعد ذلك التاريخ، وقعت منظمة التحرير الفلسطيني اتفاق "أوسلو" الذي اعترفت من خلاله بحق الكيان الصهيوني كدولة في الوجود، ثم وقعت الأردن اتفاق "وادي عربة" الذي أتى لتسوية النزاعات الحدودية مع الكيان،
و من ثمة إقامة علاقات معها. و اليوم تلتحق الإمارات، السعودية، البحرين، قطر،المغرب والسودان بركب المطبعين.
وبالنسبة للشأن المحلي في تونس فيعتبر إصدار قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني مطلبا حيويا و اساسا. فشعبنا الذي رفع أثناء الثورة شعارا مدويا "الشعب يريد تحرير فلسطين" يعني ما يقول و ما يقصد، فمناهضة الامبريالية و الصهيونية هي من طبيعة الثورة التي ارادها الشعب فالثورة الاجتماعية و الديمقراطية لا معنى لها دون بعد وطني يتجلى في سيادة الشعب على بلاده و ثرواته و قراره. و هذا لا معنى له دون مناهضة الغطرسة و الإحتلال و الاستعمار ليس في بلادنا و منطقتنا فحسب، بل في كل العالم. و لسنا في حاجة إلى التذكير بما تعنيه قضية فلسطين، لا بالنسبة إلينا كجزء من العملية التحررية المطروحة في وطننا العربي، بل بالنسبة إلى كل قوى الحرية و العدالة في العالم.
و لقد طرح حزب العمال التونسي بمناسبة صياغة الدستور الجديد ضرورة التنصيص على تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني، الا ان ممثلي حركة النهضة جناح الإخوانيين و الدواعش في تونس و الأحزاب الليبرالية رفظوا ذلك بدعوة الدستور لا ينص على المسائل الجزئية و العارضة و ان ذلك موقعه القانون، و فرضت الاغلبية في المجلس التأسيسي منطقها الذي يؤكد طبيعتها كقوى مرتبطة بالقوى الكبرى في العالم. و لعل الجميع يتذكر ما لعبه سفراء الدول الامبريالية في هذهِ المسألة بالذات، فضلا عن الزيارات المكوكية لغلاة أنصار الصهيونية لبلادنا و مقابلتهم خاصة مع قيادة حركة النهضة الإخوانية ( جون ماكيين، مادلين، اولبرايت…) التي استماتت في رفض التنصيص على معاداة الصهيونية في الدستور و رفض تجريم اي تطبيع او تعامل معها، و ذات الأمر مع مشروع القانون الذي ظل مخفيا في أدراج المجلس.
ختاما، الصهيونية هي الذراع المتقدم للامبريالية التي يعتبرها الرفيق فلاديمير لينين أعلى مراحل الرأسمالية، فالقضاء على الصهيونية لن يتم إلا بالقضاء على الرأسمالية و إقامة المجتمع الشيوعي حيث ينتفي الصراع الطبقي.
0 تعليقات