أن تكون يساريا اليوم | بلشفيّات

كمال الزغباني

حين سئل جيل دولوز عن معنى انتمائه لليسار (هو الذي لم ينخرط يوما في الحزب الشيوعي أو في غيره) أجاب بأن المسألة هي بالأساس مسألة إدراك من جهة ومسألة صيرورة أو صيران من جهة ثانية. بمعنى آخر فإن الفرق بين اليساري وغير اليساري هي أولا وقبل كل شيء مسألة تحديد وترتيب مغايرين لمستويات انتماء كل منهما. يقول اليميني: "أنا" ثم "منطقتي" ثم "مدينتي" ثم "بلادي" ثم "قارَتي" ثم "العالم". أما أن تكون يساريا فهو أن يبدأ تحديد انتمائك من النقطة الأبعد: العالم ثم القارة ثم البلاد ثم المدينة ثم النهج لينتهي نزلا إلى الأنا الذي يكون قد أفرغ ضرورة من كل مضمون هووي.

أما النقطة الثانية التي تتحدد بها يسارية اليساري فهي كونه لا يكف عن أن يكون أقليا. ليس مطلوب اليساري إذن الحصول على أغلبية ما لأن الأغلبية هي في واقع الأمر مقياس عام وبالتالي فارغ. إنه مثلا (بالنسبة للأوروبي المتوسط) الإنسان، الكهل، الذكر، ساكن المدن. أما الأقلية أو الصيران أقليا فهو المضي إلى الأقصى: الصيران امرأة، الصيران طفلا، الصيران حيوانا أو نباتا والصيران ذرة...حتى الصيران لا مدركا.

ذاك إذن معنى أن تكون يساريا في جذريته المتحررة من شتى أشكال الاستعادة والتنميط: كسر القوقعة الهووية وتشظية الأنا الذاتوي من أجل رسم خطوط إفلات تنفتح لا فقط على كونية إنسانية (فهذه أيضا يمكن أن تنقلب "إنسانوية" أي ضربا جديدا من التهوي الانغلاقي) وإنما أيضا على الحيواني والنباتي والذري والأسطقسي واللامدرك. إنه الصيران لا مدركا في إثباته الأقصى للحياة وفي اشتغاله الذي لا ينثني على تحريرها من كافة أشكال حبسها وتسييجها وتعطيلها التي تمارسها عليها قوى وسلط الحاضر: الدولة والدين والأخلاق والسوق. في مغايرة جذرية لكل أشكال التعالي والتسسيج هذه، يقول اليساري الحياة والرغبة في محايثتهما المطلقة وفي فرقهما المبدع. لكن سمة قوله هذا هو أنه لا ينفصم ولا ينفصل عن فعل لا يقل عنه جذرية ومحايثة بحيث لا تكون هناك هوة فاصلة أو فغور بين خطاب ثوري تقدمي وممارسة محافظة أو رجعية. ذلك أن واحدة من مثالب من انتموا وينتمون، أو ادعوا ويدعون الانتماء، لليسار، أفرادا كانوا أم جماعات، هو التضارب الصارخ أحيانا بين النظر والعمل (مثلا بين خطاب تقدمي "مساواتي" عن المرأة وبين ممارسات تنضح ذكورية وتسلطية إزاء هذه المرأة أو تلك). والحال أن البراكسيس مثلما حدده ماركس وأنغلز وعمقه ألتوسير مثلا هو نظر-فعل متسق مع ذاته ضرورة. 

إذا كان ما تقدم هو معنى أن تكون يساريا على الإطلاق فما معنى أن تكون يساريا "اليوم"؟ ولكن ما مدلول هذا "اليوم" الذي نريد تنزيل مفهوم اليساري في صلة به؟

سمة اليساري اليوم هي اليتم. لأن "اليوم" يبدو في كل مكوناته متضاربا مع يتطلع إليه اليساري. هناك إذن تحديد سالب لليوم باعتباره زمن ما بعد سقوط الأنظمة الشيوعية الذي يتسرع منظروا اليمين بمختلف ألوانه في ربطه بانهيار الفكر اليساري ذاته. لكأن هذا الفكر ليس في جوهره مضادا لتلك التوتاليتاريات بنفس درجة تضاده مع النموذج الرأسمالي باعتباره النظام المتأسس على مصادرة مفادها أن الشيء الكوني الوحيد هو المال. لكن "اليوم" أيضا هو يوم الطرق السيارة للمعلومات ويوم الاقتصاد الخدماتي الاستهلاكي المعولم ويوم الذاتوية المنمطة والتكرارية وكذلك يوم التعبيرات العنيفة والاستلابية عن الهويات القومية والدينية. ولكنه أيضا وعلى جهة الإيجاب يوم المعاودة المبدعة لطبيعة النضالات اليسارية ولكيفيات تصورها وإنجازها بعيدا عن منطق الهرمية الحزبية التي تصب رأسا في البيروقراطية المتكلسة، وعن "ديكتاتورية البروليتاريا" التي تستحيل حتما إلى ديكتاتورية وكفى.

لم يعد بإمكان اليساري ادعاء امتلاك حقيقة مطلقة أو الزعم بإمكان تسطير سبيل كونية لخلاص أوحد للإنسانية أفرادا وجماعات. ولم يعد المطلوب هو "إنجاز الثورة" أو التباكي على واقعة كون الثورات تؤول في غالب الأحيان إلى كوارث. إن علاقة الناس بالثورة في رؤية اليساري اليوم هي، كما يؤكد دولوز وغواتاري، هي علاقة صيرورة وصيران. كيف يصير الناس ثوريين؟ ولكن أيضا كيف يمكن لحركة ذات بواعث ثورية أن تنقلب تنظيما هرميا شبه فاشي يمجد الزعيم الأوحد ويقيم محاكم ويمارس إقصاءات باسم "نقاء" إيديولوجي مزعوم أو باسم "خط" أو "صراط" حزبي تنظيمي لا ينبغي الزيغ عنه؟ من ثمة جاءت الأهمية القصوى لمفهومي الحركة والشبكة (أو "الجذمور") في تعريف اليسار اليوم. اليسار حركة وليس حزبا لأنه متعدد تعريفا وغير قابل لأن يختزل في تركيبة هرمية منتهى أمرها الاستيلاء على الحكم أو ممارسة السلطة على اختلاف معانيها وأصعدتها. واليسار شبكة أو جذمور أو نجم بمعنى أنه التقاء فرادات متباينة ومبدعة في آن وليس معجنة تنتج كيانات رقمية متماثلة.

   كيف تتحدد إذن بالنظر إلى كل هذه الحيثيات خصوصية النضالات اليسارية اليوم؟

أولى المحددات هي في نظرنا أن المثقف اليساري لم يعد بإمكانه ادعاء امتلاك تصور شمولي للخلاص الإنساني في بعديه الفردي والجماعي. فالرؤية الشمولية هي رديفة الكليانية على مستوى الفعل والحكم السياسيين. إن المثقف اليساري اليوم هو ذاك الذي يخوض نضالات موقعية. أي الذي يقاوم كونية رأس المال عبر تحرير الرغبة والإبداع في المواقع أو الحيوزات الصغرى والمهمشة. لقد ولى وانقضى زمن المثقف السارتري الذي ينصب نفسه حارسا للقيم العليا ومتدخلا باسمها في كل المجالات على اختلافها، ليحل محله المثقف الفوكوي أو الدولوزي الذي يتلازم عنده النضال الموقعي (المساجين، النساء، أطفال الشوارع، الفنانون...) بإبداع فكري أصيل يعيد النظر بجرأة في كل المسلمات والقيم المتداولة من أجل ابتكار قيم جديدة.

ثاني المحددات تخص شكل أو أشكال التنظيم الأكثر ملائمة لهذه النضالات. لقد أثبت شكل التنظيم الحزبي الهرمي، كما عاشته أجيال من اليساريين تحت رايات الأحزاب الشيوعية في العالم، في ارتباطها على هذه الدرجة أو تلك من القوة مع "الأخ الأكبر" السوفياتي أو الصيني، إفلاسها التام من جهة كونها تعيد إنتاج الفكر الأغلبي التنميطي والإقصائي وتحاكي على صعيد الفعل ما تدعي مضادته ومقاومته على مستوى الخطاب. إن قوة الشكل الشبكي تكمن في كونه يحاكي النجم ومختلف النباتات التي تسري تحت الأرض لتبرعم في المواقع والآنات التي لا يتوقعها فيها العدو (رأس المال الذي لا مبتغى له غير تحويل الذوات من فرادات مبدعة إلى أرقام-كيانات متجانسة ومتماثلة).

هذه النضالات الموقعية وهذه الانشباكات التنظيمية اللاهرمية هي في نظري ما تمارسه اليوم القطاعات الأكثر أهمية وأصالة من قوى اليسار في العالم عبر انبجاساتها المتباينة سواء في أمريكا الجنوبية ذات الإرث الغيفاري الخصب أو في حركات العولمة البديلة في استفادتها العميقة من تنظيرات توني نغري الذي استقى بدوره أهمها من طروحات دولوز وغواتاري وفوكو ولكن أيضا من فلسفات ماكيافيل وسبينوزا وماركس عبر قراءته الإبداعية لكل هؤلاء. وهي أيضا نضالات تجسمها الثورة الفلسطينية في أبعادها اللادينية (رغم انحسارها النسبي بفعل قصورها الإبداعي من جهة وبفعل وقوعها التاريخي بين مطرقة المد الإسلاموي وسندان الوحشية الصهيونية الرأسمالية).

لكنها أيضا وبالخصوص نضالات تخوضها زمر من الفنانين والكتاب والمثقفين والحرفيين والنساء والمساجين والمهمشين على أصعدة مختلفة ومتعددة ومتشابكة تصب كلها ضمن المجرى الكبير للرغبة المحررة من كل انحباساتها وللحرية المبدعة في اشتغالهما الأصيل على ابتكار وجود إنساني يقطع جذريا مع نماذج الهيمنة والاستعباد التي رزح تحت ثقلها البشر حتى الآن.

إرسال تعليق

0 تعليقات