بقلم مشعل يسار
وضع "التقرير السري" للسكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروشوف في الاجتماع الأخير للمؤتمر العشرين للحزب في 25 فبراير/شباط 1956، قنبلة موقوتة تحت أساس الاتحاد السوفياتي والاشتراكية بافترائه الذي أطلق عليه اسم "فضح عبادة ستالين". وهو ما أدى في خاتمة المطاف إلى زوال هذه الدولة العظيمة التي عرفت باسم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في 26 ديسمبر/كانون الأول عام 1991 بتوقيع "اتفاقيات بيلوفيجييه" بين الثلاثي زعماء روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا يلتسين وكرافتشوك وشوشكيفيتس، وإرسال يلتسين هذه "البشرى" في الحال إلى الرئيس الأميركي معلنا أنه "نفذ المهمة المطلوبة" وانتصر مع شركائه التصفويين على الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة وكل الحلف الغربي الرأسمالي. ويسعى علماء السياسة والشيوعيون الروس منذ ذاك إلى تحليل كامل الأسباب التي أدت إلى الحدث الجلل الذي وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه "أكبر كارثة جغراسياسية في القرن العشرين". ولعل كلمة "التسريع" التي استعملها الأمين العام للبيريسترويكا ميخائيل جورباتشوف بعد مضي 65 عامًا بالضبط على خطاب خروشوف عنت هذا بالذات وليس تسريع عجلة الاقتصاد الاشتراكي كما ظن السذّج آنذاك.
وعلى الرغم من أن نص الخطاب الذي دان في صيف عام 1956 بشدة السياسة الداخلية لستالين اعتُبر "سريًا" ولم يُنشر في الصحافة السوفيتية حتى هلاك الدولة السوفياتية نفسها، فقد ظهر على صفحات الـ"نيويورك تايمز" آنذاك كتسريب لم يُعرف مصدره.
أسئلة كثيرة تثار أيضًا حول هجوم خروشوف على لافرينتي بيريا الذي كاد يكون مثابة اتهام بالإبادة الجماعية. وهذا على الرغم من أن بيريا الذي لم يكن ملاكًا طبعاً، أوقف "الإرهاب الكبير" وأصدر في حينه قرارات عفو واسعة وقاد "المشروع النووي" الذي حما الاتحاد السوفياتي من دمار نووي على يد الأميركيين الذين أرسلوا تهديدهم بقصفه نوويا عبر قصف هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وكذلك حول إطلاقه في ذاك الخطاب أساطير حول الحرب الوطنية العظمى، وحول أن ستالين كان يخطط للعمليات العسكرية اعتماداً على مجسم الكرة الأرضية الموجود على مكتبه!!!
الباحث الأمريكي البروفسور غروفر فير كتب في مقدمة دراسته الدقيقة لتقرير خروشوف المنشورة في روسيا تحت عنوان "اللؤم في معاداة ستالين" مع بعض الدهشة:
“ لم يكن صحيحًا أي من التصريحات الواردة في "التقرير المغلق" والتي"فضحت" ستالين أو بيريا بشكل مباشر. بتعبير أدق، تبين أن كل واحدة من بين كل تلك التي يمكن التحقق منها هي زائفة".
يقول الدكتور في التاريخ، البروفيسور فاسيلي بوبوف، في مقابة حول مسألة تورط خروشوف نفسه في القمع، بشكل لا لبس فيه:
"يمكن للمرء أن يقول إن خروشوف مذنب. فالقمع، كما هو معروف، بلغ ذروته في فترة 1937-1938. ومنذ عام 1938، لم يكن خروشوف السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني فحسب، بل كان أيضًا عضوًا مرشحًا في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي (البلشفي). وبهذه الصفة وضع تأشيرته على العديد من قوائم التنفيذ ... "
ولا يسع المرء إلا أن يذكر نقطة أخرى تتعلق مباشرة بالتقرير السري إياه. فمباشرة بعد المؤتمر العشرين و"ذوبان جليد" العلاقات مع الغرب الذي أعقبه، أدرك عدد كبير ممن سموا بـ"المثقفين المبدعين" أو "الستّينيون"، وجلهم من اليهود الليبراليين المتصهينين، أن الوقت وقتهم! من هنا بدأت تخمينات سولجينيتصين الافترائية، ثم البيريسترويكا، وقلب معاني الأشياء، وحسابات الضحايا المضخمة... فلم يبخل "الباحثون" بالأرقام مذذاك على الإطلاق! وكان صاحب الرقم القياسي بلا منازع هنا، بالطبع، هو ألكسندر سولجينيتصين، المعروف أيضًا تحت الاسم الحركي المستعار "فيتروف"! فقد أخذ هذا كأساسٍ بياناتِ الإحصائي إيفان كورغانوف الذي فر مع النازيين، ونشرها على صفحات "أرخبيله" المعروف باسم "أرخبيل غولاغ". جاء في مؤلفه:
"من عام 1917 إلى عام 1959، كان مرد الخسائر، من خارج الخسائر العسكرية، إلى الإرهاب والقمع والتجويع، وكان معدل الوفيات مرتفعاً في معسكرات الاعتقال، بما في ذلك العجز في معدلات المواليد، إذ فقدت البلاد 66.7 مليون شخص".
ولم يكتف "عاشق الضمير والعيش بمنأى عن الكذب" هذا (عبارة مأثورة له)، فأضاف دون أن يفكر مرتين:
"لقد فقدنا 44 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية من جراء شنها بطريقة ازدرائية قذرة!"
المجموع يصبح إذن: 110.7 ملايين! أي قل تقريبا روسيا برمتها!!!
وقد حاول المؤرخان البيريسترويكيان روي ميدفيديف وديمتري فولكوجونوف، اللذان تبعاه في افترائهما، جهدهما لكنهما لم يفلحا في التفوق على "المؤسس". الأول قال بـ40 مليونًا، والثاني - بحد أقصى 22 مليونًا. وهذا على الرغم من أن البيانات الأرشيفية التي أوردها المؤرخ فيكتور زيمسكوف وسبق أن تم نشرها – وزيمسكوف، بالمناسبة، لم يتميز على الإطلاق بحبه لستالين وكل ما يتعلق بستالين. فبحسبه، بلغ عدد المدانين بجرائم العداء للثورة وغيرها من جرائم الدولة الخطيرة بشكل خاص في الفترة من 1921 إلى 1953 الـ 4,060,306 أشخاص.
شمل هذا العدد أنصار الجنرال الخائن الروسي "فلاصوف" والخائن الأوكراني المتعاون مع الهتلريين "بانديرا" وكل باقي المتعاونين من شرطة الاحتلال و"إخوان الغابة" والـ"مقاتلين ضد النظام"!
كل هذه الجوقة بدأ يبيض وجهها خروشوف الذي افترى على سلفه بعد أن كان خدمَه بتفاني كلبٍ – كما يقال - خلال حياته.
بدأت شدة مناهضة الستالينية تضعف قليلاً، ابتداءً من عام 1964، عندما تقاعد نيكيتا خروشوف، لا طواعية بل قسراً. إلا أن مسيرة التشهير بستالين التي كان بدأها استمرت، ولم تتم إعادة الاعتبار خلالها لأنصار ستالين. وقد جرى كل ما جرى تحت الشعار الذي أقره المؤتمر العشرون حول "استعادة مبادئ الديمقراطية السوفيتية المعبر عنها في دستور الاتحاد السوفيتي"!
بالمناسبة، بدأ جورباتشوف أيضًا "إصلاحاته" بشعار "استعادة المبادئ اللينينية" وما شابه. فكان لا بد أن يتبع هذا "الحرصَ على المبادئ الديمقراطية" تفجرٌ جديد لحملة مناهضة الستالينية!
لقد أعطى "ذوبان الجليد" على يد خروشوف" البراعم إياها التي نمّتها وطورتها بيريسترويكا غورباتشوف. ولم تستطع هذه الدولة العظمى رغم ضخامتها وجبروتها تحمل ضغوط تلك العربدات "الديمقراطية". فالماضي الذي أطلق عليه الرصاص بمسدس يرد عادة بنيران البنادق الثقيلة.
0 تعليقات