الطبقة العاملة بتونس : النشأة ومسيرة الكفاح الى حدود ثلاثينات القرن الماضي. | بلشفيّات

بقلم الرفيق احمد صالح





كان أمر الحديث عن تشكل الطبقة العاملة في أشباه المستعمرات الى وقت ليس بعيد أمرا مضحكا و مثيرا للإستفزاز لدى الكثير من رفاقنا في شمال افريقيا و الشرق الأوسط بالخصوص متناسين عن وعى أو متعمدين السيرورة التاريخية لتطور مجتمعنا العربي ومتناسين كذلك الدور الرئيسي الذي لعبه الإستعمار في تشكل الطبقات داخل المجتمع ...سيتناول المقال دراسة الحركة العمالية التونسية : نشأتها ومسرة كفاحها 

*النشأة
تعلمنا المادية الجدلية و التاريخية أن لكل بداية نهاية ، ولكل نشأة بعينها ترابط مثبت بزوال قديم ، وكذا يحدث داخل المجتمعات التي تتحول بفعل سيرورة تاريخية كاملة تؤثثها علاقات انتاج قائمة أو زالت من مجتمعات ذات صفة معينة الى مجتمعات ذات بنية أخرى.
كان المجتمع التونسي قبل الإستعمار الإمبريالي الفرنسي مجتمع إقطاعي بامتياز باعتبار أن الإقتصاد التونسي آنذاك كان يعتمد أساسا على النشاط الفلاحي في الريف وبعض الحرف اليدوية في المدن . وكان النشاط الفلاحي يعتمد أساسا على المياه الباطنية أو مياه الأمطار ويتركز خاصة بجهات (الساحل _ الواحات بالجنوب _ الشمال الغربي) وعلى الرعي المتنقل في بقية الجهات وكانت علاقات الانتاج في جانبها الفلاحي علاقات اقطاعية واضحة يؤدي من خلالها العامل الفلاحي عمله لفائدة مالك الأرض ويأخذ نصيبا شحيحا من قيمة الإنتاج وتعرف العلاقات في المجال الفلاحي بتونس في العقل الجمعي الشعبي بالتالي : خماسة _ رباعة وهي اشارة لنسبة نصيب العامل الفلاحي من المحصول و يوجد هذا النوع من العلاقات الانتاجية خاصة في الشمال أين تزرع الحبوب . أما في الساحل و الجنوب فقد كان العمال الفلاحيين كغيرهم يأخذون نصيبا من المحصول وهو نصيبا قليلا ويعرفون باسم : المغارسة _المساقي _ الخماسة. وعادة ما يكونون في ارتباط دائم بصاحب الأرض نتيجة لوقوعهم تحت التداين لسد حوائجهم.
وفي المدن كان النشاط الرئيسي للغالبية المطلقة من العمال هو النشاط الحرفي اليدوي و يزاول العامل الحرفي النشاط ك"صانع" دون مقابل الى حين التمكن من العمل فيتحول الى "القلفة" ليصبح عامل محترف في مجال عمله غير أن ثمن جهده لا يتعدى جزء بسيط من المنتوج ويظل كالعامل الفلاحي مرتبط بصاحب العمل نتيجة " التسبقة" التي يأخذها لتدبر أمر حياته .(1)
ففي فترة ما قبل الإستعمار المباشر لتونس كانت الطبقة العاملة لم تتشكل بعد نتيجة لهيمنة علاقات الإنتاج الإقطاعية على المجتمع و لم ترى هذه الطبقة النور الا بعد دخول الإستعمار الفرنسي المسلح للبلاد التونسية .

الرأسمالية تساهم بطريقة رئيسية في تشكل البروليتاريا! نعم انها تفعل ذلك وفعلت ذلك في التاريخ . لقد مثلت معاهدة 12 ماي 1881 نقطة تحول في تاريخ المجتمع التونسي و الإقتصاد التونسي على وجه التخصيص وبدأت الرأسمالية في التمدد داخل تونس بحثا عن سوق لترويج فائض انتاجها المتراكم هناك في مصانعها . ان الحقيقة الثابتة حول الاستعمار المسلح الفرنسي للقطر التونسي تقول بأن الموقع الاستراتيجي سبب من بين أسباب الإستعمار التاريخية ولكنه سبب ثانوي والحال أن فرنسا شنت هجوما على عديد البلدان الداخلية في قلب افريقيا لسبب استثمار رؤوس الأموال الفرنسية و استغلال اليد العاملة بأبخس الأثمان وذلك هو تكتيك الرأسمالية في كل أزمة اقتصادية تمر بها. فبعد سياسة التداين التي أغرقت البلاد بدأ التغول الرأسمالي الفرنسي بالظهور من خلال اشتراء المستثمرين الفرنسيين ل 5 الاف هكتار من الأراضي الفلاحية التونسية بجهة سيدي ثابت ثم شراء 100 الف هكتار بجهة النفيضة . ففي الميدان الفلاحي سيطر المستعمر الفرنسي على الأراضي الخصبة و سيطرت الشركات الفرنسية على خمس الأراضي المزروعة بالبلاد التونسية : 770:500 هكتار سنة 1946(2) .و بدأت الرأسمالية الفرنسية تطبق سياساتها الفلاحية المرتكزة على عنصرين اثنين اولا التركيز على غراسة المنتجات المعدة للتصدير (زياتين ، حبوب ، كروم) وثانيا مكننة الفلاحة وتعصير طرق الانتاج.
ادى تغيير وسائل الانتاج الى تغير التركيبة الاجتماعية فتحول عدد كبير من العمال الفلاحيين الى عاطلين عن العمل نتيجة سيطرة الماكينة على العمل وتجريد اليد العاملة الفلاحية من نشاطها البدائي في حين تحول جزء منهم الى عمال أجراء في الضيعات الفرنسية وغادر جزء اخر الى المدن. كما اتجهت الرأسمالية الفرنسية الى إستثمار الأموال في القطاع المنجمي وخاصة الفسفاط وجهزت لذلك بنية تحتية لتسهيل نقل المواد المستخرجة الى نقاط التجميع و التصدير .
لم يكن المجال الحرفي في معزل عن الفلاحي فقد شهد بدوره حالة من التراجع خاصة بعد غزو البضاعة الاوروبية للسوق المحلية مما ادى الى تفقير الحرفيين التونسيين الذي لم تستطع منتوجاتهم منافسة البضاعة الاوروبية.
كان البحث عن اليد العاملة الرخيصة مطلبا رأسماليا خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وفي معمعانها نتيجة لحالة الأزمة التي تمر بها الرأسمالية العالمية ، فبعد السيطرة على الاقتصاد المحلي الهش انطلقت فرنسا في البحث عن يد عاملة غير مكلفة ونظرا لعدم توفر حاجياتها من اليد العاملة بتونس انطلقت نحو جلبها من ايطاليا ومالطا وبلدان الجوار خاصة الجزائر والمغرب وبعد أن أبقت على نظام الخماسة في القطاع الفلاحي في البداية قضت عليه وحولت العمل الى عمل مأجور. تأكيد لما سبق يقول الكاتب رضا زواري :"كما ظهر العمل المأجور كذلك في الأرياف ، فلئن أبقى المعمرون في البداية على الخماسة فانهم أصبحوا في ما بعد مع توسع الإستعمار الزراعي يستعملون يدا عاملة مأجورة من سكان البلاد ومن الأقطار العربية المجاورة"(3). أمام التغلغل الرأسمالي بالقطر التونسي وسيطرت المستعمر الفرنسي على كل مجالات الإقتصاد تعرض الآلاف من العمال التونسيين لفقدان عملهم وتحولوا الى أجراء لدى المستعمر وقد قدر عددهم بحوالي 200 الف عامل يوفرون للرأسمالية الفرنسية قوة عمل رخيصة مقارنة بالعمال الاوروبيين الذين اضطلعوا بمهمات التسيير ونالوا أجرا مضاعفا لأجر العمال المحلي مما غذى النقمة في صفوفهم وطور وعيهم السياسي والنقابي فأصبحوا رقما صعبا في معادلة معقدة وضعتها الرأسمالية بنفسها ضد نفسها.
مثل كل تلك الظروف الموضوعية ركيزة أساسية لتركز طبقة عاملة تونسية عبر عنها تمايزها عن العمال الأجانب في مختلف فترات الصراع ضد الإستغلال و الحيف الطبقي الذي تقوده الرأسمالية الفرنسية. ومن مظاهر التشكل يمكن على سبيل الذكر لا الحصر ذكر اضرابات عمال تونس بتاريخ غرة ماي 1904ففي هذا اليوم نفذ العمال التونسيون الذين اكتسبوا خبرة النضال و التنظم النقابي من العمال الفرنسيين الذين تمرسوا على ذلك في أوروبا اضرابا عاما واختفلوا باليوم العالمي للشغل تلته جملة اضرابات في الأيام الموالية و كان عمال البناء و الميناء و عمال الأحذية المكون الرئيسي لهذا التحرك الذي توسعت رقعته لتشمل الجهات الداخلية من البلاد وكانت أهم مطالبه الزيادة في الأجور وتخفيض ساعات العمل وهو رد عمالي مباشر على السياسة الرأسمالية لفرنسا في المجال الإقتصادي ، ومثل أيضا تعبيرة صارخة عن احتدام الفوارق الطبقية بين البرجوازية الفرنسية و الأوروبية و العمال المحليين الذين اكتووا ظلما و قهرا .
كان الواقع المادي للعمال التونسيين مقارنة بالعمال الأوروبيين دافعا لتبلور الوعي الطبقي ولكنه لم يكن السبب الوحيد ، ففي مطلع القرن انتشرت النظرية الإشتراكية في أوساط العمال الفرنسيين المطلعين على جديد الفكر العالمي كما كان للمثقفين التونسيين نصيب من الاطلاع على الاشتراكية الوافدة من شرق أوروبا خاصة ، ونتيجة للالتحام بين العمال التونسيين والاوروبيين اكتسب المحليين ثقافة جديدة و وعيا متطورا نتيجة لتردي أوضاعهم بالأساس و ننتيجة كذلك لظهور حركات و مشاريع سياسية تضع المسألة الوطنية بجدية على رأس مهام الطبقة العاملة التونسية و تبحث عن استغلال أشباه الفرص لتونسة العمل النقابي وتأطيره خدمة لحركة التحرر الوطني .
لم يكن الوعي الطبقي للعمال التونسيين وعيا مكتملا ، اذ أنه ظل لعقدين أو أكثر من الزمن خارج إطار الصراع الحقيقي الذي يفرضه الواقع باعتبار أن القطر مستعمرة فرنسية وأن علاقات الانتاج صناعة رأسمالية . وكان وعي العمال وعيا إصلاحيا ذو منحى مطلبي مادي في البداية الى حدود منتصف عشرينات القرن الذي مثل منعرجا تاريخا في مسار الطبقة العاملة التونسية وفي مسار واقع البلد التي ترزخ تحت الإستعمار العسكري المباشر ومثلت نهاية الحرب العالمية الأولى و تأثيراتها في الداخل والخارج حدثا عالميا هز أركان الرأسمالية التي خرجت منهكة من الحرب بالإضافة الى تهور أحوال عامة الشعب التونسي و تأثره بحركات التحرر الوطني في مصر بقيادة حزب الوفد وفي تركيا بقيادة أتاتورك ضد الأطماع الأنڨليزية و انتصار الثورة البلشفية على القيصر و أدت هذه الأحداث كلها الى بداية تكون نواة تنظيمية في الداخل يقودها في المستوى النقابي جامعة عموم العملة التونسيين وهي تنظيم نقابي مستقل خاص بعمال تونس و يقوده في المستوى السياسي الحزب الحر الدستوري التونسي بالاضافة الى ظهور الفرع الفدرالي للأممية الثالثة 
وهو النواة التي سيتكون منها الخزب الشيوعي التونسي فيما بعد اثر الانشقاق الذي وقع داخل فرع الحزب الاشتراكي الفرنسي بتونس وهو إمتداد للإنشقاق الذي حصل للحزب بفرنسا أثناء مؤتمر "تور" وتكون على إثره الحزب الشيوعي الفرنسي في ديسمبر 1920.وكانت نواة الحزب الشيوعي بتونس أول تنظيم سياسي نادى بالاستقلال الوطني والغاء معاهدة الحماية.
خاضت الطبقة العاملة التونسية نضالا مريرا ومبدئيا ضد الرأسمالية التي تقودها الشركات الفرنسية المستعمرة للأرض و المهيمنة على النشاط الإقتصادي باالتراب الوطني و بعد أن تراكم الحقد الطبقي لدى عمال تونس وتبلورت في أذهانهم مسالة التحرر خاضوا اضرابا يعد المفتاح في تاريخ الحركة النقابية التونسية و حمل اسم " اضرابات عمال الرصيف" وانطلق بتاريخ 14 أوت 1924 من أجل جملة من المطالب أهمها :
_تحديد الاجر اليومي 24 فرنك
_تحديد ساعات العمل 8ساعات
_زيادة 50% في ايام الأعياد و 38% للعمل الليلي.
_ خلاص الساعة الإضافية ب 4 فرنكات على أساس يوم العمل ب 8 ساعات.
وقد قوبل هذا الإضراب بحملة قمعية من المستعمر ادت الى سقوط قتلى ورغم ذلك واصل العمال نضالهم و تجمعوا وانتخبوا لجنة تفاوض باسمهم و حصلوا على دعم شعبي كبير و حققوا في النهاية و بتاريخ 30 نوفمبر من ذات السنة جملة من مطالبهم ابتي تعتبر نتيجة ايجابية في ظل لا تكافؤ ميزان القوى .
شكلت الطبقة العاملة التونسية قوة سياسية في وجه الرأسمالية الفرنسية المتنفذة بداخل التراب التونسي و ساهم تمرسها النضالي و ايمانها بقدسية ما تحمل من مطالب في بلورة وعيها الطبقي والوطني وترجمته الى فعل ميداني بتاريخ 31 اكتوبر 1924 وذلك بعد الاجتماع ببورصة الشغل والاعلان رسميا عن ميلاد جامعة عموم العملة التونسيين و التي قادها عدد من المناضلين الشيوعيين و الدستوريين والمستقلين ومن الشيوعيين ( مختار العياري و بشير الفالح ...) الذين لعبا دورا مركزيا في قيادة اضرابات عمال الرصيف.
كانت مسيرة كفاح الطبقة العاملة التونسية شديدة الارتباط بجامعة عموم العملة وهيئة قيادتها وعلى رأسهم محمد علي الحامي وبالرجوع الى هذا الارتباط الوثيق في بعده الوطني يجب كذلك تنزيل الارتباط في بعده الطبقي وعلاقة جامعة عموم العملة بمكونين سياسيين وهما الحزب الحر و نواة الحزب الشيوعي . أما الحزب الحر فبحكم المنبت الطبقي لعناصره كان هذا الأخير شديد الاحتراز على الجماهير ومنظمتهم النقابية وامام حالة الحصار التي شنها المستعمر على الجامعة وقياداتها دعى الحزب الحر عمال تونس الى الإنسلاخ عن الجامعة والالتحاق باتحاد نقابات العمال الفرنسيين.
اما الشيوعيين فقد ساندوا الجامعة مساندة تامة ونشطوا في الدعاية الى الانسلاخ من اتحاد النقابات الفرنسية كما ان التنظيم الشيوعي جعل على ذمة جامعة عموم العملة صفحته ومطبعته لتمرير مواقفها وكان فينيدوري منشط التنظيم على اتصال ظائم بمحمد علي الحامي ويرافقه في بعض الاجتماعات العامة الشيء الذي دفع بالنظام الفرنسي الي الاقرار بأن جامعة عموم العملة هيا امتداد للحزب الشيوعي التونسي وقد أدت مساندة الشيوعيين للحركة النقابية و العمالية التونسية الى قمعهم ونفيهم الى الخارج وتندرج مساندة الشيوعيون لجامعة عموم العملة التونسية في اطار تبني مبادئ ثورة أكتوبر البلشفية الداعية الى مساندة الشعوب المستعمرة في التحرر .
لقد ساهم الإستغلال الإستعماري الرأسمالي في بداية تكون طبقة عاملة تونسية و تأسس أول تنظيم نقابي تونسي ، كانت بدايته اصلاحية الاتجاه ذات مطالب مادية بالاساس الا أن انسلاخ الجامعة عن اتحاد النقابات الفرنسية شكل تهديدا واضحا للإستعمار و أكسب الطبقة العاملة وعيا طبقيا _وطنيا عبروا عنه في أكثر من مناسبة و أكسبوه وجها مكشوفا لعدوهم الرئيسي (المستعمر) الشي الذي حول الاستغلال الرأسمالي الى قمع رأسمالي بغاية تركيع العمال ولكن كما سبق وأشرت فان الرأسمالية تدق المسامير في نعشها دون أدنى انتباه فهاهي قد دربت طبقة عاملة في تونس على المقاومة و حسن اتخاذ التكتيكات المناسبة و لئن كانت قد انهت حياة جامعة عموم العملة فانها قد أرست وعيا لدى العمال بضرورة التنظم المستقل و الدفاع الشرس و المبدئي عن الأرض و الحرية و الكرامة الوطنية.


(1) (النشاط الحرفي)ملخص لما ورد بكتاب طاهر الحداد : العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية ص 26
(2)p.Sebag : La Tunisie :Editions Sociales , paris 1952 page , 44
3: رضا الزواري : تسرب الرأسمالية الى تونس في عهد الحماية : ص 112

إرسال تعليق

0 تعليقات