سبعة عشر قتيلاً هم حصيلة المجزرة التي ارتكبها التلميذ نيكولاس كروز البالغ من العمر 19 عاماً والمفصول من مدرسة مارجوري ستونمان دوغلاس الثانوية في ولاية فلوريدا الاميركية، إنتقاماً من إدارة المدرسة بسبب فصله منها لأسباب تأديبية. ولقد بلغ عدد حوادث إطلاق النار في مدارس الولايات المتحدة الاميركية 18 حادثاً خلال هذا العام.
أي مشاعر تلك التي يعانيها أهالي وأقارب التلاميذ الضحايا، وكل واحد منهم كان الفرح والحب والأمل لأهله؟ من منا ليتمكن ولو للحظة أن يضع نفسه مكان تلك الأم أو ذاك الأب وقد ودعا فلذة كبدهما صباحاً ليعود اليهما محمولاً الى تحت التراب؟ إنها المأساة التي لا يمكن للمرء أن يكون لامبالياً تجاهها. هي الروح الانسانية التي تأبى الأنتقام من أناس يشبهوننا بسبب سياسة دولتهم التي تزرع الحروب والدمار والقتل والمآسي في كل بلدان المعمورة، طمعاً في الثروة والأسواق والهيمنة. والمجازر تتحول الى ظاهرة دائمة في المجتمع الأميركي، والذي يقدمه ساسته الى العالم على أنه مجتمع الحريات والديمقراطية والنجاحات الفردية، انه الحلم الأميركي. ولكن كيف لهذا المجتمع أن يكون مكاناً للأحلام الفردية في حين تصبح حوادث القتل الجماعي من السلوكيات الاجتماعية المتكررة؟ وقد سبق هذا الحادث المجزرة التي حصلت في الثاني من تشرين الأول عندما فتح رجل ستيني النار من غرفته في فندق على حفل موسيقي مما أدى الى مصرع ستين شخصاً في مجزرة مروعة.
نجح الكاتب الأميركي تيودور درايزر Theodor Drieser في توصيف الفرد الاميركي على صورة كلايد، بطل روايته " المأساة الاميركية" التي صدرت في العام 1925، والذي قتل فتاته التي احبها بهدف التخلص منها بعدما اكتشف انها حامل، وسرق منها مبلغ خمسة دولارات، من اجل الفوز بحب فتاة اكثر غنى. بعد قراءتي للرواية، وكان ذلك منذ زمن بعيد، عادت بي الذاكرة الى ايام الطفولة عندما كنت اترجى والدي السماح لي بزيارة منزل الجيران الذين كانوا يملكون جهاز تلفاز بهدف مشاهدة مسلسل الهنود الحمر، حيث كان عدد كبير من اولاد الحي يتوافدون، والجميع يناصر البيض في مواجهة الهنود الحمر. كانت الصورة جذابة، وكنا جميعاً من أنصار الأبيض في مواجهة الهندي الأحمر، الذي جسد القيم السلبية: المكر، العدوانية، الجهل، والخ. في حين مثل الأبيض دور الضحية. ولقد شكلت هذه الرواية بالنسبة لي احد المنعطفات الهامة في تكوين صورة واقعية عن الرجل الابيض الذي كنا نناصره في طفولتنا باستجابة طبيعية في انحيازنا ضد الاشرار، حيث كانت نجحت هوليود في ممارسة دورها الايديولوجي كجزء من معركة كسب القلوب والعقول.
بتاريخ صدور رواية درايزر لم تكن الازمة الرأسمالية الكبرى قد اصابت المجتمع الاميركي، وجسد كلايد بطل الرواية الشخصية الاميركية نتاج منظومة القيم في العالم الجديد، المؤسس ليس فقط على عمليات ابادة جماعية بحق سكان البلاد الاصليين، اي الهنود الحمر، انما ايضاً على منطق حق القوة. إنه احد الفوارق بين الرأسمالية الاوروبية التي ومع انتصارها جسدت منظومة قيم تقدمية مقارنة مع النظام الاقطاعي ( عصور الظلامية الاوروبية)، تمثلت في شعارات الثورة الفرنسية: اخوة، عدالة، مساواة.
طبعاً الرأسمالية الاوروبية غيرت من سلوكها في مرحلة الامبريالية، وهذا تجلى بوضوح في سياستها تجاه الشعوب والبلدان التي استعمرتها. انما كرست داخل مجتمعاتها القيم التي حفظت بالحد الادنى ذلك التراث التقدمي. فالاستعمار الفرنسي في فيتنام، والجزائر، ولبنان، وسوريا، و...و..لا يختلف بشيء عن الاستعمار الاميركي، والذي مارس العربدة وخاض مئات الحروب اساساً في بلدان اميركا الجنوبية، وجاء على شكل حروب عدوانية في كل بقاع الارض ولكن في فترة انهيار المرحلة الكولونيالية، لذا، برزت الامبريالية الاميركية كاكثر المستعمرين فظاظة وعنفاً، وهي الاتية من تقاليد تقوم على العنف، وتكرس ثقافة القتل والدم، وتروج لحق القوي بالسيادة. هذا الحق، كما انبثق من الشكل التاريخي لاستعمار اميركا، كذلك من حقيقة أن الولايات المتحدة الامريكية خرجت من الحرب العالمية الثانية بصفتها اقوى دولة عسكرياً واقتصادياً.
إن ثقافة حق القوة ليست فقط احدى مقولات السياسة الخارجية الامريكية التي لا تعير الحساب للاخرين في العالم، والتي نشطت الامبريالية الاميركية بتطبيقها، انما هي من عناصر الانتظام الاجتماعي الاميركي الداخلي، كما على الصعيد الاقتصادي، كذلك في روحية ثقافة الفرد العادي. ومشهد المجزرة بحق مواطنين عزل في حفل موسيقي، او المجازر وحوادث إطلاق النار التي تحدث بشكل شبه يومي ومنها مجزرة المدرسة، وبما يتخطى ما كان يجري من صراع بين المافيات في المدن الاميركية، ليطال سلوكيات عدوانية لأفراد تشكل ثقافتهم الفردية جزءاً من الثقافة الأجتماعية الأميركية، القائمة على منطق التفوق على الأخرين، ومن هذا التفوق ينبثق الحق بالتحكم بهم وبمصيرهم، حتى لو أدى ذلك الى قتلهم، هو التطبيق المنطقي لحق القوة، وبذلك يتم التطابق في الصورة بين مجازر الداخل ومجازر الحروب التي خاضتها وتخوضها الولايات المتحدة الاميركية. إنه التسلسل الذي تكمن جذوره في إبادة شعب بأكمله هم السكان الأصليين للبلاد، ويمر عبر مئات الحروب مروراً بفيتنام، وأفغانستان والعراق.
باسم حق القوة لم تترك الولايات المتحدة الامريكية بلداً في العالم الا وتدخلت فيه، وكانت النتائج في كل مرة دموية.
كلايد، ما زال بطلاً في الثقافة الاميركية، بالرغم من ان درايزر اوصله للاعدام، فالمجتمع الذي يمجد العنف، ويصنع بواسطته الابطال، لن تنتهي مشكلته باعدام احدهم لم يحالفه الحظ، بل انه سيبقى في الدوامة ذاتها.
إن الجنون الاميركي هو استمرار لمنطق حق القوة، والمجتمع الاميركي المغروسة جذوره في إبادة الرجل المستعمر الابيض للهنود الحمر، وفي استعباد السود، لن يفلت من لعنة التاريخ.
١٥ شباط ٢٠١٨
0 تعليقات