التيار اليساري داخل حركة فتح | بلشفيات



الكاتب مجهول / مقتطف من صفحة الفكر الشيوعي الثوري

تناقش هذه المقالة التيار اليساري (التيار الديمقراطي) الذي انضوى تاريخياً في حركة فتح، ونناقش بروز هذا التيار ضمن الحركة الأم، وتموضعه بين انسجامه العام مع ما قدمته حركة "فتح" للوطنية الفلسطينية من جهة، ونقده لسلبيات الحركة سواء في مشروعها أو تنظيمها أو طبيعة مقاومتها أو استقلاليتها من جهة أُخرى.. ويشير هذا النقاش إلى أهمية التعلم حالياً ممَّا قدمته حركة وطنية فلسطينية، وما اعتراها من سلبيات حاول التيار اليساري تجاوزها، وإن ظلّ محكوماً بواقع الحركة وما آلت إليه.

إنطلاقة حركة فتح (حركة التحرر الفلسطينية) ومنابعها

منابع حركة فتح النظرية والتنظيمية هي منابع يمينية بامتياز، فالمؤسسون خليل الوزير وصلاح خلف ومحمد يوسف النجار، جاؤوا من خلفية الإخوان المسلمين، أما ياسر عرفات فقد كان نصيرا للإخوان المسلمين ومتعاونا معهم وإن لم يكن عضوا فاعلا.. وخالد الحسن كان عضوا في قيادة حزب التحرير الإسلامي، وقد استقطبوا في البدايات قليلا من خارج التيار الإسلامي مثل فاروق القدومي وخالد اليشرطي من حزب البعث، باستثناء فاروق القدومي وياسر عرفات كان المؤسسون لاجئين.
وقد كان منبرهم الأول على جريدة النداء التي أُعيد إصدارها بإسم “نداء الحياة – فلسطيننا” عام 1959، وكانت الجريدة لأحد أعضاء الإخوان المسلمين السابقين في لبنان “توفيق حوري”.. وكانت كل مصطلحات المجلة، وخاصة الافتتاحية التي كانت بعنوان “رأينا” مصطلحات وطنية دينية، وذلك ما جعل الصحف ذات التوجه العلمي والقومي تقف موقفا حذرا ومتشككا من هذه المجلة.

وعندما انعقد مؤتمر الحركة الثاني (أواخر عام 1968، في بلودان- سوريا)، وهو أول مؤتمر للحركة ينتخب لجنة مركزية بشكل رسمي ومعلن، انعكست الخلفية الإسلامية للتأسيس على تشكيلة اللجنة المركزية، فكانت، إضافة لياسر عرفات، كما يلي: خليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو إياد)، وممدوح صيدم (أبو صبري)، وعبد الفتاح حمود، ومحمود عباس (أبو مازن)، ومحمد يوسف النجار (أبو يوسف)، كانوا من الإخوان المسلمين السابقين.. وخالد الحسن (أبو السعيد)، ووليد نمر (أبو علي إياد) كانا من أعضاء حزب التحرير الإسلامي السابقين.. وفاروق القدومي (أبو اللطف) من أعضاء حزب البعث السابقين.
أما المؤتمر الثالث للحركة (في حمورية في دمشق عام 1971)، وبعد استشهاد ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية (عبد الفتاح حمود وأبو على إياد وأبو صبري)، وبعد مجازر أيلول في الاردن 1970، فقد انتخب المؤتمر السبعة الأحياء من اللجنة المركزية بالإضافة الى نمر صالح (أبو صالح)، وكمال عدوان، ومحمد غنيم (أبو ماهر) – الأول لم يكن له خلفية حزبية ولكنه كان عاملا ولذلك سيكون فيما بعد رمزا من رموز الخط السوفييتي في الحركة، أما الآخران فهما عضوان سابقان في الإخوان المسلمين.. واستشهد كمال عدوان وأبو يوسف النجار (10/4/1973)، ومن تبقى من هذه اللجنة المركزية إضافة لهايل عبد الحميد (أبو الهول) الذي أضيف للجنة بقي حتى المؤتمر الرابع (في دمشق عام 1980) الذي انتخب التسعة الأحياء من اللجنة المركزية بالإضافة الى ماجد أبو شرار، وقدري أبو كويك، وهاني الحسن، ورفيق النتشة (أبو شاكر)، وعبد الله الإفرنجي، وسعد صايل (أبو الوليد).. ماجد وقدري كانا من اليسار، ورفيق النتشة وعبد الله الإفرنجي كانا من الإخوان المسلمين السابقين، أما هاني الحسن فكان أقرب الى أخيه خالد، ولكن سعد صايل كان وطنيا عاما ومقبولا من الجميع. 
أي أن اللجنة المركزية صارت إضافة لياسر عرفات: 4 يسار بشكل عام (أبو اللطف، أبو صالح، ماجد أبو شرار، قدري)، 10 توجّه إسلامي سابق، واحد وطني مستقل.. أي أن نسبة اليسار ارتفعت لتصبح 26% في اللجنة المركزية للحركة، التي ستفقد أحدهم (ماجد أبو شرار) عام 1981 بالاغتيال في روما، واثنين (أبو صالح وقدري) عام 1983 بالانشقاق، إضافة لاستشهاد سعد صايل عام 1982، فعاد أبو اللطف وحيدا في اللجنة المركزية.

فتح لم تكن حزبا بل أشبه بالجبهة

قبل الانطلاقة المسلحة (1958 – 1965)، كانت فتح حركة تعبئة وتحريض تقلل من شأن الأحزاب وأساليبها النضالية والنظرية على صفحات مجلة فلسطيننا، وكانت تكتفي بأن يجمد الحزبي ارتباطه الحزبي ليكون عضوا فيها، ولم تكن تطرح إلا خطا عاما يتمثل بالدعوة إلى أن يمسك الفلسطينيون بناصية قضيتهم، ويهبوا للكفاح المسلح لتحرير وطنهم.. وكانت الحركة تصر على أنها حركة، وترفض باستمرار اعتبارها حزباً.. ولذلك من الطبيعي أن يبقى أعضاؤها ينتمون للايدلوجيات التي أتوا منها. 
ولأن الغالبية العظمى من كوادرها وقياداتها هم من اللاجئين والذين لم يتعدوا بارتقائهم الطبقي مستوى البرجوازية الصغيرة كان توجهها راديكالياً.. أي أنها محكومة بالتنوع النظري، وربما لم يجانب هاني الحسن الصوابَ عندما قال عام 1968 عن حركة فتح إنها في مجال الأيدلوجيا جبهة أما في الخط السياسي فهي حزب.

وبما أن السياسة حتماً ستتأثر بالايديولوجيا إن لم تنبع منها، فيمكن القول إن الواقع يشي بأن حركة فتح عملياً كانت جبهة سياسية، أي تتعايش بها تيارات سياسية مختلفة وأحيانا متناقضة، ومن هذه التيارات اليسار والذي أُطلق عليه ”الخط الديموقراطي”.. حتى أنه عندما وصلت نشرة ”شؤون الأردن” الفتحاوية الى تنظيم فتح في أمريكا ظن هؤلاء إن هذه النشرة هي للجبهة الشعبية، مع إنها كانت تصدر عن لجنة شؤون الأردن برئاسة قدري وتحت إشراف صلاح خلف (أبو إياد) وهيئة تحريرها من اليسار (الخط الفيتنامي)، وكل من يكتب بها أعضاء في حركة فتح.

تكوين اليسار الفتحاوي وبنيته.

نظراً لخلفية الإسلام السياسي الذي قدم منه قادة فتح التاريخيون باستثناء فاروق القدومي فقد صار الأخير بؤرة استقطاب لذوي التوجه اليساري.. وبما أنه كان مفوض الإعلام المركزي في الحركة حتى عام 1970 فقد أصدر عدداً من أدبيات الحركة ذات الطابع اليساري النضالي (الصيني الفيتنامي الغيفاري) وصار الإعلامُ بيتَ اليسار.. ولأن اليسار، بشكل عام، مع تحرر المرأة وأميل الى الحرية الاجتماعية، ولأن عضوات تنظيم المرأة في حركة فتح غالبا ما كنّ من المتعلمات ومن الشريحة العليا من البرجوازية الصغيرة، فقد كانت غالبية قيادة تنظيم المرأة في فتح والأمانة العامة لاتحاد المرأة من ذوات الإتجاه اليساري. وكانت قيادة التنظيم الطلابي في حركة فتح أميل الى الراديكالية والى الخط الماوي (وهكذا عُرفت قيادة وكوادر الكتيبة الطلابية) حتى عام 1977. 
أما القيادة العامة لقوات العاصفة فقد كان كل أعضائها من خلفية إسلامية (إخوان مسلمون أو حزب تحرير).

عام 1968 هبت الثورة الطلابية في الغرب عموما وفي فرنسا خصوصا، فسطع نجم اليسار الجديد الذي أظهر ميلا للتعاطف مع المقاومة الفلسطينية خاصة، ولذلك كان من الطبيعي أن يتعزز اليسار الفتحاوي داخل جهاز الإعلام المركزي لفتح باعتباره النافذة التي يطل منها على العالم. وصار من الممكن أن يلاحظ أي مراقب وكأن جهاز الإعلام تابع لحركة سياسية غير التي يتبع لها جهاز التعبئة والتنظيم، وتوسع تيار الإعلام ليشمل التفويض السياسي عندما استلمه ماجد أبو شرار إضافة الى مهامه في الإعلام بعد استشهاد كمال عدوان.

حركة فتح بنظر الدول الشرقية

لا نستطيع أن نواصل الحديث عن يسار فتح قبل أن نشير الى دوره وعلاقته بالدول الشرقية.. كان الاتحاد السوفييتي ينظر للمقاومة الفلسطينية نظرة سلبية باعتبارها متطرفة عموماً، ولفتح باعتبارها حركة برجوازية صغيرة متطرفة يمينية، وعرفات رمز هذه الحركة، ورغم ذلك كان عرفات يدرك أنه لا سبيل الى إثبات نفسه وحركته في الساحة الدولية بدون الاتحاد السوفييتي، ولذلك بذل قصارى جهده لإقامة علاقة معه فالتحق عام 1968 بوفد مصري الى موسكو بقيادة جمال عبد الناصر كمستشار.
أما الصين فكانت ترى أن المقاومة الفلسطينية عموماً وحركة فتح خصوصاً حركة شعبية مسلحة تقف عقبة في طريق سياسة مصالح الإمبرياليتين الرأسمالية والسوفييتية.. وياسر عرفات هو قائد هذه الحالة.
أما فييتنام فكانت تعتبر المقاومة الفلسطينية حركة شعبية مسلحة حليفة موضوعياً للثورة العالمية ضد الإمبريالية الأمريكية وتسير حتما باتجاه التعاون والتحالف مع القوى الثورية العالمية بما فيها الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية..
وبالنسبة لنظرة فييتنام تجاه عرفات بعد زيارته لهانوي عام 1969 فقد جرى تقييم المكتب السياسي للحزب الشيوعي له بأنه قائد وطني براغماتي جدا، ً أي مؤهل لأن يلعب دور تشان كاي تشيك الصيني ضد الشيوعيين، وأيضاً هو مؤهل ليلعب دور كاسترو الكوبي ويحول دولته إلى دولة إشتراكية، وحركته إلى حزب ماركسي، وذلك حسب استحقاقات إقامة دولته المستقلة القابلة للحياة في فلسطين. 
وكان أي طرح يساري داخل حركة فتح غالبا ما يكون ذا ملامح ماوية أو غيفارية.. أما الاتحاد السوفييتي وأنصاره العرب والفلسطينيون فكانت فتح تنظر لهم بارتياب باعتبارهم تسوويين وضد الكفاح المسلح.

الخطوط اليسارية الثلاث داخل حركة فتح

منذ عام 1971، وبداية بذور الإعتدال في قيادة فتح، صار في اليسار الفتحاوي ثلاثة خطوط أطلق عليها المراقبون الخط السوفييتي (التمسك بالتعايش السلمي) 
والخط الماوي (السياسة تنبع من فوهة البندقية)
والخط الفيتنامي (الوسط الذهبي بينهما). 
وكان أبو صالح من رموز الخط الأول، وأبو فادي (منير شفيق) من رموز الخط الثاني، وأبو عمر حنا ميخائيل من رموز الخط الثالث. 
وتجتمع هذه الخطوط الثلاث بما أطلقت عليه وسائل الإعلام آنذاك وحتى عام 1983 الخط الديمقراطي.. وكان هذا الخط شبه علني، ويكاد يكون معترفاً به لدرجة أن ياسر عرفات عندما كان يشكل لجنة ما كان يأخذ ذلك بعين الإعتبار.. لم يكن بإمكان هذا الخط أن ينجز شيئاً هاماً إلا في مجال الإعلام والعلاقات مع الجهات الأجنبية.

بداية انزلاق قيادة فتح نحو التسوية مع العدو

في عام 1973 انفتح الباب على مصراعيه لانزلاق الطرف الفلسطيني في لعبة التسوية، فكان المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر (شباط 1974)، وصدر عنه النقاط العشرة التي سميت البرنامج المرحلي أو برنامج السلطة الوطنية، الذي تبنته قيادة حركة فتح والتزم به كل أعضاء اللجنة المركزية وإن بمستويات مختلفة:
البعض قبل به، والآخر رحب به، والخط السوفييتي تحمس له.. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يكون الإسلام والتاريخ الإسلامي مرجعية القادمين من الإسلام السياسي الذين سيُرمز لهم في المستقبل باليمين.. وصار هؤلاء، في دفاعهم عن الخط التسووي، يتكئون على "صلح الحديبية" (عام 6 هجرية أو 627م) وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقده مع مشركي قريش رغم أن معظم بنوده لصالح المشركين في الظاهر - خاصة عندما شُطب من النص وصف محمد برسول الله لأن قريش لا تعترف بذلك -..

الإنقسام الفلسطيني

قسّم هذا البرنامج (البرنامج المرحلي) الساحة الفلسطينية (منظمة التحرير الفلسطينية) لا الى يسار ويمين (كما كان سابقا)، بل الى رفض وقبول، فكان أحد أطراف يسار المقاومة (الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين) وحركة فتح (بيمينها وبعض يسارها) في جبهة القبول، أو الاستسلام كما يسميها خصومها، أو جبهة البرنامج المرحلي كما تسمي نفسها أو خط السلطة الوطنية كما تسميها أجهزة إعلامها.. وفي الجانب الآخر نجد الطرف الأهم في يسار المقاومة وهي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع جبهات أخرى تتأرجح بين اليمين واليسار: جبهة التحرير العربية (الموالية للعراق)، والصاعقة (الموالية لسوريا)، والجبهة الشعبية – القيادة العامة (أحمد جبريل)، وجبهة التحرر الفلسطينية (طلعت يعقوب وأبو العباس)، وجبهة النضال الشعبي (سمير غوشة). وأعلن هذا الطرف نفسه بإسم “جبهة الرفض”، مدعومة ماليا وسياسيا من العراق وليبيا، أما سوريا فكانت تدعم جبهة الرفض لوجستيا - وصارت هذه الأقطار الأربعة تنظر لجبهة الرفض ليس كأنها بديل لفتح فقط بل بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية.. أي لم تعد الساحة الفلسطينية مقسومة الى يسار ويمين، بل الى رفض وقبول، وفي كل طرف هنالك يمين ويسار.

إنقسام يسار فتح

فجّر هذا البرنامج الخط الديمقراطي (اليسار) إلى شظاياه الثلاث: الخط السوفييتي تبنى البرنامج تبنياً كاملاً وصار المدافع الأول عنه، والخط الماوي رفضه رفضاً قاطعاً وعاداه، والخط الفيتنامي عارضه ولم يعاديه. 
وكان أصحاب الخط الفييتنامي يرون أن الخبراء الأمريكيين الاستراتيجيين يعتقدون أنه لا مجال لتطور إسرائيل، بل لبقائها، إلا إذا انتفى كونها فلسطين في أذهان العرب عموما والفلسطينيين خصوصا، ويشاركهم هذا الإعتقاد بعضُ الاستراتيجيين الإسرائيليين الذين يشتركون في حركة السلام الآن ويدعون لإقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل.
استنادا الى تلك الرؤية، فقد كان أصحاب الخط الفييتنامي يعتقدون أن إقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل هو أحد الأعمدة الإستراتيجية للسياسة الأمريكية الدائمة في المنطقة.. ولكنها (أي أمريكا) تنتظر أن تتوفر الظروف الملائمة لقيام دولة فلسطينية صورية من حيث الواقع والإمكانيات، وفعّالة من حيث الإعتراف بإسرائيل وتوفير الإعتراف العربي بها، وعامل هام في تعزيز أمن إسرائيل. 
وكان أنصار الخط الفييتنامي يحذّرون أنصار الخط السوفييتي أن دورهم عند اليمين لن يتعدّى دور “حمير العرس”، تُدعى للعرس، ولكنها للنقل فقط، ولا تشترك في الرقص أو الوليمة.. وشاع مصطلح “حمير العرس” في مجالس فتح المختلفة.
وبذلك انتقلت قيادة حركة فتح من مواقع الراديكالية إلى مواقع الوسطية أو ما سيطلق عليه مواقع التسوية، وانتفت الراديكالية عن حركة فتح.
وصار أصحاب اليمين الفتحاوي يُطلقون على الخط الفييتنامي الفتحاوي ومَن شايعهم من الكوادر والضباط مصطلح “نوادي التحشيش الفكري” لأنهم يعيشون في الخيال.. وأما أنصار الخط السوفييتي فراحوا يطلقون عليهم لقب “الطفولية اليسارية” – إشارة للماركسيين الذين رفضوا صلح بريست (أوائل عام 1918)..

تنظيم أبو نضال (فتح - المجلس الثوري)

في خضم تصارع الخطوط داخل حركة فتح، اليمينية منها واليسارية ظهر أبو نضال منذ عام 1974 وأعلن تطرفه وأتهمته القيادة بالتخطيط لاغتيال أبي مازن.. وأعلن تجريم اللجنة المركزية، وانشق بإسم “حركة فتح المجلس الثوري”، على اعتبار أنه عضو في المجلس الثوري ومعه أعضاء آخرون دون أن يسميهم.. ووثّق علاقاته مع ممثلي "جبهة الرفض" في العراق، وشكلوا ما عرف "بقيادة الساحة العراقية" ليلعب الدور القيادي هناك، كما هو حال عرفات في لبنان.

التحولات التي طرأت على يسار فتح

الخط الفييتنامي بدأ الإعداد لإعلان نفسه حزباً ماركسياً عربياً قومياً، ناظراً بإعجاب للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي آنذاك.
الخط السوفييتي بدأ يحس بالفشل شيئاً فشيئاً لانسداد الطريق أمام خط السلطة الوطنية، واتضح أنه لا مسار للتسوية إلا مسار السادات. 
أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت التدخل السوري في لبنان، وضرب المقاومة الفلسطينية، وموافقة السوفييت على ذلك خاصة أن “كوسيغين”، رئيس الوزراء السوفييتي آنذاك، كان في دمشق عشية الاجتياح السوري للبنان 6/6/1976.

الخط الماوي الذي كنا نتمنى أن يتوسع أو يقتنع بوجهة نظره الثورية والكفاحية (خط الجماهير) ليس فقط أغلب كوادر فتح بل مجمل الفصائل الفلسطينية واليسار العربي، بدأ يتجه إلى الخط الساداتي (قبل زيارة السادات إلى القدس)، وخاصة بعد أن ساءت علاقة السادات مع السوفييت، وبذلك صار يُحسب على اليمين أكثر مما يحسب على اليسار.. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن رمز هذا الخط (منير شفيق- أبو فادي) المسيحي اعتنق الإسلام وصار من أنصار الخط الإيراني، وانضم مع آخرين من تياره لتشكيل سرايا الجهاد الإسلامي.

بعد أن توسع نفوذ الخط الفييتنامي داخل القوات العسكرية، وفشل الخط السوفييتي في مسيرة التسوية، ظهرت محاولات لدمج الخطين في خط واحد، وخاصة بعد المؤتمر الرابع للحركة عام 1980 حيث انتُخب ماجد أبو شرار عضواً في اللجنة المركزية، وأُعيد انتخاب أبو صالح، وانتخب أبو موسى وأبو خالد العملة عضوين للمجلس الثوري، وصار الطرفان بقيادة ماجد وأبو صالح، وبموقف قابل للتسوية وإن كان غير متحمس لها.

ظهور تيار فتح الإنتفاضة

بعد استشهاد ماجد أبو شرار – أكتوبر 1981 صار هذا الخط عملياً تحت قيادة أبو خالد العملة القريب جداً من أبي موسى، وكانا ثنائياً ذا نفوذ في قوات العاصفة وخاصة قوات اليرموك.
بعد الخروج من بيروت وشتات القوات المسلحة، ونظراً للممارسات أثناء الحصار، وللإجراءات بعد الخروج، انتفض الخط الجديد رسمياً في محاولة للاستيلاء على الحركة، وأعلن وراثته لكل شيء فيها ولها بالأسماء السابقة (المراتب والمؤسسات والنشرات الإعلامية) بدعم من سوريا وليبيا. وصار أنصار هذا الخط يسمون حركتهم “الإنتفاضة”، بينما الجهات الرسمية في فتح وخارجها فكانوا يسمونهم “المنشقين”.. أما أجهزة الإعلام الدولية والعربية فكانت تسميهم “جماعة أبي موسى”.
ومنذئذ نستطيع القول إن اليسار الفاعل في فتح انحصر (الى حد ما) في “فتح - الإنتفاضة”، ورغم أن غالبية كوادرها وقياداتها من الخط الفييتنامي إلا أنها صارت أقرب الى الخط السوفييتي، خاصة وأنه لم يكن مرغوبا لهم أن يبتعدوا كثيرا عن موقف سوريا، وبالتأكيد لم يكن مسموحا لهم أن يعادوه أو حتى يعارضوه - وموقف سوريا كان قبول القرار 242 وإن لم تنخرط في عملية التسوية.

المعارك

وساءت العلاقات إلى درجة اقتتال فتحاوي لأول مرة، وتطورت إلى اقتتال فلسطيني جدي أيضا لأول مرة، وكانت حرب المخيمات في لبنان وتدخل التنظيمات اللبنانية في المعارك لصالح مقاتلي "فتح الإنتفاضة" بأمر من دمشق، لتصفية حسابات الأسد الخاصة مع أبو عمار الخارج عن الطاعة، وأبرزهم حركة أمل الشيعية أكثر التنظيمات الموالية لنظام الأسد، ثم حصار طرابلس الذي كانت نتيجته تدمير المدينة بمدافع الجيش السوري وهزيمة قوات "فتح - عرفات" ورحيلها بحرا مرة أخرى في ديسمبر/كانون الأول عام 1983 إلى صنعاء.

إنقسام القيادة الرسمية في حركة فتح

مباشرة بعد زيارة ياسر عرفات للقاهرة (21/12/1983) انقسمت القيادة الرسمية في فتح، وتنصل أبو جهاد من هذه الخطوة، ولم يبق مع ياسر عرفات من اللجنة المركزية علنا إلا أبو مازن.. وانقسم السلك الدبلوماسي الفلسطيني، فكان السفراء في الدول الغربية مع الزيارة، أما السفراء في الدول الشرقية والعربية فكانوا ضدها بمستويات مختلفة.. وذلك شجّع البعض أن يتهم السفراء الفلسطينيين أنهم ليسوا سفراء فلسطين لدى الدول المعتمَدين لديها، بل هم سفراء هذه الدول لدى فلسطين، فكل سفير تبنى موقف الدولة التي هو فيها..
وكما أشرنا سابقا، صار اليسار داخل فتح بعد الإنشقاق هامشيا جدا، وفقد الخطّان السوفييتي والماوي هويتيهما: الأول (ومن أبرز نجومه الباقين أحمد عبد الرحمن) لأن السوفييت دعموا المنشقين ومنظماتهم الشعبية.. ودخل أبو مازن من بوابة الاتحاد السوفييتي أيضا، وصار لديه حظوة عندهم مما أفقد الخط السوفييتي صفة الماركسية.. أما الثاني (الماوي) فكان أن تحول أغلب أعضائه للإسلام السياسي.. أما الخط الفيتنامي فلم يعد ذا تأثير يُذكر لا من حيث المواقع داخل الحركة ولا من حيث الفعالية.

دخلت مصر الممر الإجباري للتسوية وهو الطريق الأمريكي، وانعزلت عن محيطها العربي والإسلامي، ففقدت عملية التسوية بريقها ويساريتها.. ولكن الخط السوفييتي بقي داعما للتسوية ومبادراتها، ومنها مبادرة بريجنيف1981.
لكن بعد عودة مصر إلى المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية رجعت الحيوية مجددا لعملية التسوية، وانفتحت الأبواب أمام مقولة السادات “أوراق الحل بيد أمريكا”، فتمكن الخط اليميني ورصيفاه (الأكثر يمينية، والأقل) من أن يجاهروا بقبول خطة ريغان (الرئيس الأمريكي آنذاك) 1982، والترحيب بالمشروع الفرنسي المصري.

وعندما ظهرت إتفاقية أوسلو 1993، لم يكن أمام ما كان يُسمّى بالخط السوفييتي إلا دعمها لثلاثة أسباب: الأول أنه لم يعد هناك شيء إسمه الاتحاد السوفييتي، ووريثته (روسيا) تؤيد هذه الإتفاقية.. والثاني لاعتياد عناصر هذا الخط البقاء الى جانب ياسر عرفات، والثالث انسداد طرق التسوية، ولم يبق غير هذا الطريق كممر إجباري.

وتعاظم المد الديني لانطلاق حركة حماس ومنافستها لحركة فتح نضاليا، وأيضا لليسار الفلسطيني ككل.. وقد كان لانهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات أثره المهم في حدوث جزر واضح في التوجه نحو النزعات اليسارية، وقاد ذلك إلى تحول فصيل من فتح - الإنتفاضة الى الإسلام السياسي في لبنان العام 2006 (فتح - الإسلام).. كما كان لسيطرة المركز الإمبريالي على العالم كقطب مهيمن أثره الآخر في دحر الفكر القومي الذي صُبغ غالبا بالنزعة اليسارية.. حتى أنه يمكن القول اليوم أن حركة فتح وغيرها من الحركات التي ما زالت تناضل من أجل التحرر تعيش تشتتا وضياعا فكريا يتقاسمه التمسك بالدين والتوجه نحو اللبرلة.. وصرنا نجد المعارضين والمناضلين السابقين، يساريين وغير يساريين فلسطينيين وغير فلسطينيين، ينشطون في ميادين المنظمات غير الحكومية الممولة من المنظمات الأمريكية بشكل مباشر أو غير مباشر.. 

أول الرصاصات وأول الحجارة وأول الراكضين للاستسلام

وكما كانت فتح هي أول الرصاصات، وأول الحجارة (كما يحب كل الفتحاويين تسميتها)، كانت أيضا أول السلام، وأول الإستسلام، ويقول الواقع إنها كانت مُعبِّدة الطريق الفلسطينية والعربية نحو التفاهم مع إسرائيل والتنازل لها، ولا نقول السلام أو التسوية لأنه لم يظهر أي منهما حتى يومنا هذا.
كانت الإتفاقية الإسرائيلية - الفلسطينية المرحلية التي وُقّعت في واشنطن قد حملت رسميا إسم “إعلان المبادئ”، ولكنها في الحقيقة إعلان التخلي عن المبادئ من الجانب الفلسطيني في إطار القضية الفلسطينية – أو ما يُسمّى بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. وبدأ هذا التراجع بوتائر مختلفة يجتاح المنظمات الفلسطينية، ابتداء من الجبهة الديمقراطية صاحبة الفكرة الأولى بالتسوية الى حركة حماس آخر المتشددين.
وفي الأقطار العربية أعيد الإعتبار لا لمصر حسني مبارك فقط، بل وللسادات شخصيا.. وصار الصلح مع إسرائيل مطلبا وطنيا حتى للجهات الموسومة بالتشدد، وصار شعار هذه الجهات: سلام شامل وتطبيع شامل مقابل انسحاب شامل من الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد 4 حزيران 1967، وسامح الجميعُ الصهيونيةَ بما أخذته وفعلته قبل ذلك.

ويمكن تلخيص رأي كل من البرجوازية الوطنية (المحلية) والبرجوازية الصغيرة الذي طرحوه حول مسألة التسوية أن القيادة الفلسطينية (قيادة فتح خاصة) التي هي من هذه البرجوازيات بامتياز كانت، كمثيلاتها في الأقطار العربية، تعتقد أن قليلا من القتال والنضال سيحرر قطرَها ويأتي بها الى الحكم، كما حصل في سوريا والعراق وليبيا ومصر والجزائر، (وفي حالة فلسطين جزء منه)، لأجل تراكم ثرواتهم الشخصية عبر نظام المسخ الرأسمالي الدولتي المحاسيبي الذي يشيدونه.

إرسال تعليق

0 تعليقات