بقلم الرفيق ايهاب المالكي
يعتبر موضوع الثقافة من أكثر الموضوعات تعقيدا و تشابكا و تنوعا، لذا نجد طرق دراستها و مناهجها مختلفة و متنوعة و النتائج التي خلصت إليها الدراسات كذلك متنوعة و متعددة لهذا نجد ان النظريات التي تطرقت الي هذا الموضوع عديدة و كثيرة و ربما لا يمكن حصرها بشكل جيد نظرا لتعدد المداخل النظرية و خظوعها في أغلب الأحيان لرؤى و تصورات ايديولوجية و هكذا يصبح موضوع الثقافة كغيره من المواضيع الإنسانية تتقاذفه الايديولوجيات في المذاهب الفكرية المختلفة. و تعتبر النظرية الماركسية من أبرز هاته النظريات لكونها حققت نجاحات.
1/ النظرية الماركسية:
تعتبر النظرية الماركسية من النظريات التطورية فهي تنظر إلى نمط الحياة او الثقافة، انها تطور من مرحلة إلى أخرى و تنتقل من جراء التناقضات التي تحصل في النظام الاجتماعي و الثقافي في المرحلة السابقة. و ان هذا التحول و التغير يطرأ بفعل تأثير قوى الإنتاج او العامل المادي الاقتصادي.
تؤكد النظرية الماركسية ان الثقافة في اي مجتمع و خاصة الجانب المعنوي منها و الذي يتشكل من العرف و القانون و الدين و ايديولوجية
.. الخ ما هو في الحقيقة الا انعكاس للواقع الاقتصادي و لنمط الإنتاج السائد في المجتمع، و نجد من ين الأمثلة الموجودة في هذا الإطار المقولة السائد لدى الماركسيين نوما و هي أن المطحنة الهوائية تدل على المجتمع الاقطاعي في حين تدل العربات البخارية على المجتمع البورجوازي (ميشال تومسون و آخرون، نظرية الثقافة، ص251) اي ان قوي الإنتاج المتمثلة في أدوات الإنتاج و العمل و علاقات السيطرة الاقتصادية اي المالكين لوسائل الإنتاج، هي التي تحدد البنية الاقتصادية للمجتمع التي بدورها تحدد البناء الفوقي للمجتمع و الذي يعتبر الثقافة، فهذه النظرية تختلف عن بقية النظريات الثقافية الأخرى في تفسيرها للتطور الثقافي، أو حتى لأصل الثقافة الا انها تختلف عنها في تحديد وظيفة الثقافة في المجتمع فهي تعملعلى استقرار المجتمع و سيادة انظمته الاقتصادية و الاجتماعية و هي بطبيعة الحال وفق المنظور الماركسي الثوري. و اعتبر ماركس الثقافة الإنسانية ذات اهل اجتماعي و ان الانسان عندنا يحس الحرية يبدأ بتحقيق ذاته عبر النشاط الخلاق في إنتاج الأشياء باستعمال خياله، لذلك يرى ان الثقافة تنشأ من الفعالية الإنتاجية للانسان.
2/ لينين و الثقافة:
من ذا الذي لا يعرف ان لينين علق أهمية كبيرة على الثورة الثقافية؟
و قد تكلم عن ذلك احيانا كثيرة جدا بعد ثورة أكتوبر، تكلم علنا في المؤتمرات عن مختلف فروع التعليم العام و في خطابه الشهير أمام الكوسومول و كتب عن ذلك في مقالاته عائدا المرة تلو الآخرة إلى موضوع المهام الثقافية التي تواجه الثورة و اعار هذا الموضوع قدرا كبيرا من الاهتمام في الصفحات الأخيرة التي كتبها بيده. هذا مع العلم ان لينين لم يهتم فقط بمسألة أشكال الثقافة الاشتراكية في الأعوام التي سيتم فيها احراز النصر على الجبهات السياسية و الاقتصادية و يتجلى فيها عظمته و جلالة نمط المعيشة الجديد التي وصفه ماركس بأنه "حياة جديرة بالإنسان". و الذي اعتبر كل تاريخ البشرية بالنسبة له مجرد مرحلة تحضيرية. كان لينين يهتم بالثقافة في المقام الأول ليس باعتبارها تتويجا للانتصارات السياسية و الاقتصادية مع انه كان يدرك واضح الإدراك ان الثقافة الاشتراكية بالذات و نمط المعيشة الاشتراكي هما اللذان يوضحان اخلاقيا في عيني كل مناضل و بناء تلك الجهود و التضحيات التي يتطلبها التاريخ بمقادير كبيرة جدا قبل أن يتوسخ المجتمع اللاطبقي على الأرض. و لقد اكتسبت الثقافة و ابسط التعليم في عيني فلاديمير لينين بعد أكتوبر معنى جديدا تماما و اخذ يتصورها بأشكال جديدة تماما، فلينين كان يعرف انه يتعين ان يكتب على الدراسة بجد و اجتهاد و مثابرة و ان يستخلص من الحكمة البورجوازية و من تكنيكها كل ما يمكن أن يكون نافعا لنا من أجل القضاء على البورجوازية و تشييد عالمنا نحن. و لمن كان يعرف انه يوجد عند الشيوعيين ما يخصهم وحدهم ما نبذته البورجوازية و حكمت عليه و لعنته، انها حقائقنا الطبقية الخاصة و موقفنا الثوري الجدي من العالم من الإدراك و المعرفة من التاريخ من الحاضر و من المستقبل، و قد الج لينين من وجهة النظر هذه على أن يكون تعليمنا نفسه ابتداءا من اول كلمة يقرأها الطفل او أمة غير المعلمة في مركز تصفية الأمية مختلفا تماما مفعما بروح اخرى على أن يدفع الإدراك اتجاه اخر تماما.
كما أفاد لينين بأن تكون طرائق تعليمنا و التعليم الذاتي مختلف أيضا، فلا يجب فقط استبعاد كل كذب و خداع و جميع اوهام و غباوات البورجوازية المقصودة و غير المقصودة بل يجب أيضا الا يسير استيعاب المواد على سبيل الكتبي بل على صلة في منتهى العمق بنشاطنا الاشتراكي العملي اليومي، اغلب الظن ان في وسع هذا المعلم البورجوازي التقدمي او ذاك أيضا ان يقول:"تعلم و انت تعمل و اعمل و انت تتعلم" و لكن فرقا يقوم هنا مفاده ان العمل ليس بنظر لينين غير عنصر من نشاط الاشتراكي، و ان هذا التعلم و هذا النشاط العملي يؤلفان جزئين لا يتجزئان من الاشتراكية المتنامية بعد أكتوبر. فبدون رفع مستوى التعليم بدون الدراسة يستحيل توطيد الموقع السياسي بادراك طبقي واضح و عالي المستوى تكتسبه جماهير البروليتاريا و الفلاحين الفقراء، اجل بدون هذا التعليم بدون هذه الدراسة يستحيل تطوير الصناعة بوتيرة سريعة و تحويل الريف الفردي الذهني إلى ريف جماعي تعاوني، و لكنه لا يجوز و لا لثانية واحدة فصل هذا التعليم و هذه الدراسة عن النضال السياسي عن النضال الاقتصادي عن تصنيع و تحويل الاستثمارات الفلاحية إلى استثمارات تعاونية جماعية، و هذا واضح الان كما كان واضح من كلمات لينين في أولى أشهر التي اعتقبت الثورة، و لكن الوقت يسير إلى الأمام و الظرف الجاري الشهير يجري بسرعة عاصفة و نحن لم تشهد بعد انه أضر في مجراه باي من مبادئنا بيد ان نهر الزمن التدفق يطرح علينا عند كل انعطاف تارة مهام جديدة و طورا مهام قديمة بمظهر جديد. كما حذر لينين من أن العدو سيكون قويا بخاصة في ميدان الثقافة و "المعيشة" و انه سيكون هنا "ماكرا.. حاذقا.. عنيدا".
كان زمن و حاربنا و الآن أيضا لا نعد بأننا لن نحارب، و لكنه ينبغي لنا اكثر مما اي وقت طرد العدو من المواقع الثقافية، ينبغي لنا الان الا نكتفي حتى باحتلال قمم القيادة و الإشراف بل ينبغي لنا أن نستولي على أرض العدو كلها.
3/ الشيوعية و الثقافة العراقية الحديثة:
دائما ما يتساءل البعض عن سر ازدهار الثقافة في العراق في فترتي الستينات و السبعينات، و كثيرا ما تحدث الأدباء عن الخصوبة الفكرية في الجنوب العراقي الذي انتج انماطا مختلفة من الثقافات التي توحدت فيما بعد لتشكل الثقافة العراقية، و الجواب على ذلك هو أن العراق كان أول المتأثرين بالمد اليساري و الفكر الذي يطرحه، خصوصا و ان الفكر اليساري يهتم بالطبقاتزالفقيرة و المسحوقة و يدعو لاحترام حقوق الشغيلة و للكادحين و منهم شغيلة الفكر من أدباء و فنانين و إعلاميين.
هذه التجارب جعلت الكثير من مثقفي العراق يتجهون نحو شلال اليسار و الماركسية ليشربوا من معين فكري لا ينضب، فتحولت الثقافة العراقية تدريجيا إلى ثقافة يسارية بكل تجليتها التي بقيت راسخة في عمق المتلقي، و لعل أدباء الجنوب في الناصرية و البصرة و ميسان هم أكثر الذين انتوا ثقافة يسارية حقيقية بحكَم انتمائهم السياسي المبكر للحرب الشيوعي العراقي، الذي تصدى للدفاع عن الوطن و المواطن عبر رفضه للرأسمالية و الدعوة الاشتراكية، لتبدأ مرحلة مهمة في تاريخ صناعة الثقافة التي بدأت تزدهر تلقائيا نتيجة تصاعد الحس الوطني الذي افرز ادباء و كتابا نظروا للجمال و الاحساس بعد أن هضموا ما جاءت به الماركسية و لمعرفة رأي المثقف العراقي بالتأثير اليساري و الشيوعي على الثقافة العراقية كان هذا الاستطلاع و كانت أول المتحدثين الدكتورة ازهار صبيح:"شيوعية ـ ثقافة" هي إحدى أكثر المتلازمات رواجاً وقبولاً، داخل الأوساط المجتمعية العراقية على اختلافها. حتى انها أولى الكلمات التي اشتغلت في مخيلتي وأنا أحاول مقاربة موضوعة الاستطلاع هذه "تأثير الحركة الشيوعية على الثقافة العراقية". فما أن تُذكر كلمة شيوعية، حتى يتجسد في ذهن أي عراقي و عراقية، معنى الثقافة، والعكس صحيح ايضاً وقطعاً.
ختاما، لقد حول الشيوعيون مقولة كل شيوعي مثقف و كل مثقف شيوعي بعزمهم و دأبهم رغم كل الصعاب و المحن التي اوجهوها إلى واقع معاش، حيث أضحى كل من يقرأ الكتب و يقتني الصحف و يحضي الجلسات الثقافية و يشاهد المسرحيات و يحضر المعارض التشكيلية و يدعو لانصاف المرأة شيوعيا و لو اقسم بالأيمان العظيمة انه ليس كذلك! فحري بأن يطلق على الشيوعيين حقا انهم حملة مشاعل الثقافة و التنوير في عصر كثر فيه الجهل و خيم فيه الظلام.
0 تعليقات