ايهاب المالكي
تاريخيا ومفهوميا من الصعب فصل اليسار العربي في فلسطين عن اليسار اليهودي في مرحلة ما قبل النكبة. فعدا استثناءات قليلة، نشأ اليساران كيسار واحد في سياق نفس التأثر بالحركة الشيوعية، والكومنترن. وحتى بعد ان جرت محاولات لتعريب الحزب الشيوعي بقرار من الكومنترن، إنما جرى التعريب كفعل واع لأن غالبية السكان الأصليين كانت غريبة عن الفكر والتنظيم الشيوعي. وبعد الانشقاقات التي أدت في النهاية الى قيام عصبة التحرر الوطني، كتنظيم شيوعي عربي، قبل اربعة اعوام من النكبة إنما أبقته أسير نفس هذه الجدلية ولم يمنح زمنا كافيا لينضج كيسار فلسطيني له طابعه.
لم يكن هنالك وجود ليسار عربي منظم في فلسطين خارج الحركة الشيوعية. وكانت هنالك حالات فردية نادرة معروفة مرت في التنظيم الحزبي لفترة أو أخرى مثل: مخلص عمر وجبرا نقولا. وينطبق ذلك على غالبية المستعمرات في تلك الفترة. فاليسار الممكن كان غالبا هو اليسار المتحالف مع الاتحاد السوفييتي كنموذج صاعد واعد بالانتصار. أما النقاشات الفكرية والاجتماعية التي على أساسها انشق اليسار واختلفت فرقه وأحزابه في الغرب، فلم تكن أسئلة مطروحة بالنسبة لمجتمعاتٍ مستعمَرةٍ، ما زالت في طور التحرر الوطني، كما هي حالة المجتمعات العربية، اللهم إلا عند بعض المثقفين. وباختصار لم تشغل هذه القضايا قطاعات اجتماعية لتقوم على أساسها حركات يسارية مختلفة ومتنافرة.
نشأ اليسار الفلسطيني المنظم كما نعرِّفه، وكما عرفناه في الفصائل، في هذا الإطار. هذا طبعا لا يشمل مثقفين يساريين عديدين وجدوا تعبيرا لنفسهم في الكتابة والصحافة او في تنظيمات يسارية عربية. نهض اليسار الفلسطيني المنظم خارج فلسطين ومنه إلى الضفة والقطاع ( مع استثناء في حالة غزة التي عرفت يسارا غزاويا مستقلا، وحركات قومية ناصرية بمسحة يسارية) في لحظة تاريخية شهدت صعودا عاما لليسار العربي، وذلك بعد هزيمة 1967.
وحتى حين تراجع اليسار عربيا في نهاية السبعينات (ضرب الحزب الشيوعي العراقي والسوداني كمثال) ظل اليسار الفلسطيني يحقق تقدما طيلة السبعينات، وذلك ليس بسبب من أصالة فكره اليساري المتزاوج بإبداع مع العالم ثالثية، كما ينسب بعضنا برومانسية لتلك المرحلة أمورا لم تكن، بل يعود ذلك إلى تبنيه الموقف الأكثر راديكالية في القضية الوطنية الفلسطينية في حينه كما ظهر في مواقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجسَّدتها شخصيات يتم التشديد عادة على "نقائها الثوري" مثل جورج حبش وغسان كنفاني ووديع حداد وابو ماهر اليماني وغيرهم، و تأكيده على الكفاح المسلح.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هى في الحقيقة نموذج لكل الحركات اليسارية التي ظهرت في نهاية الستينيات في المنطقة العربية: تعاني من نفس المشكلات والأمراض التي عانت منها الحركات اليسارية المشابهة على الرغم من رغبتها الحقيقية في النضال من أجل العدل والحرية. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي منظمة ماركسية سياسية عسكرية نشأت من رحم حركة القوميين العرب عام 1967. وحركة القوميين العرب هي حركة أنشأها جورج حبش عام 1953 على أساس قومي وكان لها عدة فروع في عدد من البلدان العربية.
وقد تبنت حركة القوميين العرب أفكار علمانية ذات طابع اشتراكي (كانت أكثر تأثراً بالجيفارية)، كما تبنت فكرة الكفاح المسلح. وفي عام 1966، قامت الحركة بتكوين كتيبة أبطال العودة مع جيش تحرير فلسطين كجناح عسكري لها. وبعد هزيمة عام 1967، توحدت هذه المجموعة مع مجموعة شباب من أجل الثأر وجبهة تحرير فلسطين بقيادة أحمد جبريل وهي مجموعة ذات طابع قومي هي الأخرى كانت مدعومة من سوريا في ذلك الوقت. وهكذا تم تكوين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عام 1968 تحت قيادة جورج حبش.
لا يمكن أن نتجاهل مواقف الجبهة الشعبية الرافضة للمفاوضات مع إسرائيل، وفساد السلطة الفلسطينية السابقة، وسياسات عرفات الدولية والمحلية، لأنها جميعاً حافظت على استمرار مصداقية الجبهة في الشارع الفلسطيني حتى مع تراجع نفوذها السياسي وأعداد المنتمين إليها. ونستطيع أن نلقي الضوء هنا على مثال واحد، عندما رفضت الجبهة الشعبية دعم محمود عباس في انتخابات عام 2004 وحرصت على مساندة مصطفى البرغوثي المرشح المعارض للرئاسة على الرغم من تلقيها عرضاً بالافراج عن أحمد سعدات ومن معه إذا ما فقط قامت بإعلان دعمها لمحمود عباس.
إلا أن السؤال الرئيسي الآن هو: هل تستطيع الجبهة الشعبية أن تقدم بديلاً يسارياً يطرح نفسه مجدداً في النضال الفلسطيني؟ عندما تم تكوين الجبهة الشعبية في الستينيات كانت قائمة على أساس رفض فكرة الدولتين والدفاع عن فكرة دولة واحدة لكل مواطنيها. كما كانت تتخذ موقفاً حاسماً من مسألة إسقاط الأنظمة الرجعية في العالم العربي كطريق لتحرير الأراضي الفلسطينية. ورغم أن الجبهة بدت أقل تمسكاً بهذه المبادئ إلا أن تمسكها مثلاً بحق العودة لكل اللاجئين وغيرها من الثوابت الفلسطينية يسمح لها أن تقدم بديلاً أهلاً للثقة في حالة عودتها لثوابتها الأولى مع التعلم من دروس تجربة ما يقرب من نصف قرن من النضال المسلح والشعبي.
إن عضوية الجبهة الشعبية تعتمد في المقام الأول على النخب والمثقفين وطلاب الجامعات في القدس ورام الله ونابلس وشباب المدن. في حين تحظى حماس بتأييد الغالبية العظمى من الفقراء في غزة وقلقلية والخليل. إلا أن ما تشهده الضفة وقطاع غزة من أزمة اقتصادية طاحنة، وحركات مطلبية شبه يومية، قد تجعل من الأراضي الفلسطينية أرضاً خصبة ليسار حقيقي، يربط بين النضال ضد الإمبريالية الأمريكية والاحتلال الصهيوني والنضال ضد الفساد والأنظمة الدكتاتورية في المنطقة العربية، وبين كل ذلك وبين نضالات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ضد الاستغلال والظلم والقهر. ولكي تصبح الجبهة الشعبية هي هذا البديل، عليها أن تعود للنضال وسط الجماهير الفلسطينية معتمدة على الأسس الأولية التي نشأت عليها، كما أن عليها أن تصير قاطرة رئيسية في مقاومة الصهيونية والاحتلال. ولا يمكن هنا الجَذم باحتمالات المستقبل، فقط يمكن التأكيد على أن هناك ضرورة وفرصة حقيقية اليوم في بناء بديل يساري مقاوم داخل فلسطين.
0 تعليقات