بقلم إيهاب المالكي
من شوارع لندن و أحياء ليفربول إلى امبريالية فلورينتينو بيريريز و حلفائه.
لم تكن الحركة العمالية العالمية على تماس ميدان كرة القدم. كانت في قلب المعركة، بالفكر وبالسياسة وبالقيم. يفيد تاريخ اللعبة أنها في البدء كانت لعبة برجوازية. في الجامعات وفي المعاهد العمومية في بريطانيا جندت اللعبة لتهذيب أبناء الطبقة البرجوازية الصاعدة وتمكينهم من قيم الحداثة ومن تربية تتلاءم والمجتمع الصناعي الناشئ.ولكن بساطة اللعبة وخروجها من الحيّز المدرسي واهتمام شرائح اجتماعية مختلفة بمتعتها جعلها تنطلق نحو الاحتراف أولا ونحو الشعبية ثانيا. وقع هذا في بريطانيا في العشرية الممتدة من 1870 إلى 1880.
في مساءات نهاية الأسبوع وبعد أيام مضنية من العمل يجد العمال في لعبة كرة القدم الفضاء الملائم للمتعة، وأصبحت الميادين مقصدهم الروتيني لعبا وفرجة. « الأسبوع الأنقليزي» مثلما كان يسمى في الثقافة العمالية هو شكل جديد من أشكال تنظيم زمن العمل حين يعطى للعمال أجورهم من أجل أن ينفقوها نهاية الأسبوع في فضاءات الترفيه .لقد أصبحت كرة القدم مصعدا اجتماعيا للعمال، إذ تتيح اللعبة لمن يتقنها أن يضيف لراتبه الزهيد في المؤسسة راتبا مضاعفا وسيطرت حينها المدن الصناعية الأنقليزية على اللعبة، ويكفي ذكر نوادي ليفربول، مانشستر، إيفرتون، وبولتون وغيرها. كانت المصانع الكبرى في حاجة أكيدة لثقافة عمالية جديدة اعتقدت حينها أن كرة القدم يمكن أن تكون النشاط الملائم لذلك.وفعلا مثلت كرة القدم العنوان الأبرز لثقافة عمالية جديدة تعتمد على قيم الجدارة والمنافسة والانضباط وروح الفريق وإبداع الفرد وخطط اللعب والتنظيم المحكم وهذه كلها قيم المجتمع الصناعي الصاعد آنذاك..
الاشتراكيون في فرنسا في بدايات القرن العشرين كانوا ينظرون لهذه العلاقة بين كرة القدم والحركة العمالية من زاوية الصراع الطبقي ومن زاوية تحديات الاشتراكية الدولية. كرة القدم تدخل قلب المعركة الإيديولوجية والسياسية آنذاك بنشأة كرة القدم العمالية بنواديها وهياكلها ومنافساتها التي حملت أسماء مشاهير الإشتراكيين و«جان جوريس « كان واحدا منهم. حين تمارس اللعبة جماعيا ويتكاتف الجميع من أجل النتيجة والأداء الجيّد فإن ذلك تجسيد خالص للقيم الاشتراكية ولقيم البروليتاريا.الصراع مع الطبقة البرجوازية يتحول إلى ميدان الرياضة وإلى ميدان كرة القدم على وجه الخصوص. هذه الطبقة البرجوازية التي تدفع العمال إلى مستنقع مجتمع الفرجة بآلياته الرأسمالية والتي تمارس الرق الأبيض في عمليات انتقال اللاعبين بين النوادي المحترفة وتدفع بـ»الفوت بيزنس» إلى الواجهة، على هذه الطبقة أن تخسر الرهان أمام بروليتاريا تمارس كرة قدم «حمراء» بقيم غير القيم البرجوازية..ولكن مجريات المسألة تتجه نحو كرة قدم منخرطة بالكامل في سياق منظومة السوق وأصبحت اللعبة صناعة بكل المقاييس وتتراجع ثقافة كرة القدم العمالية التي نادى بها الاشتراكيون في فرنسا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن كرة القدم تأبى الابتعاد عن المعركة السياسية والنقابية. في فرنسا مرّة أخرى وفي سياق حركة ماي 1968 التي تمرّ هذا الشهر ذكراها الستون لم تكن حركة ماي فقط طلابية عمالية بأفق نقابي، كانت أيضا حركة من أجل كرة قدم بمنطق جديد وبأفق اشتراكي لا لبس فيه. وقع احتلال مقرّ الجامعة الفرنسية لكرة القدم مدّة خمسة أيام من طرف لاعبين هواة أساسا كما حدث مع كل المؤسسات التي تمّت السيطرة عليها ، الجامعات، المصانع، الإدارات ومقرات مهنية عديدة. وزعت المناشير على الحاضرين وعلى المتابعين ورفعت الأعلام الحمراء وكانت المطالب متجهة إلى الحدّ من هيمنة الثقافة الاحترافية على كرة القدم وأن يعطى للهواة الذين يمارسون اللعبة كل حقوقهم وتمّت الدعوة إلى توسيع انتشار ممارسة كرة القدم عبر إنشاء ملاعب في الأحياء وفي المدارس والجامعات، وإلى تكوين ما يكفي من المدربين والحكام وفق ثقافة جديدة ومراقبة صارمة على أموال كرة القدم وغيرها من المطالب الأخرى. المتتبعون لمسار كرة القدم الفرنسية يعتقدون جازما أن حركة ماي 1968 في عنوانها الكروي كانت لها بصمة ظاهرة في النقلة التي شهدتها اللعبة مع بداية سبعينيات القرن الماضي.
كرة القدم في قلب الحركة العمالية، لا يمكن الفصل بينهما. هناك من الباحثين من يعتبر أن ضعف حضور كرة القدم في الولايات المتحدة الأمريكية يرجع بالأساس إلى ضعف الحركة العمالية فيها وضعف هيكلتها في تنظيمات وأحزاب سياسية قوية..وتلك قصة أخرى
0 تعليقات