عزالدين بوركة
تُعرَّف الأيديولوجيا بأنها مجموعة من الأفكار والمعتقدات المشتركة، التي تعمل على تبرير مصالح الجماعات المهيمنة. وتوجد الأيديولوجيات في المجتمعات كافةً، التي توجد بها نظم راسخة لعدم المساواة بين الجماعات. ويرتبط مفهوم الأيديولوجيا ارتباطًا وثيقًا بمفهوم القوة؛ لأن النظم الأيديولوجية تعمل على إضفاء المشروعية على تباين القوة، التي تحوزها الجماعات الاجتماعية.
ويبقى القول إن كلمة الأيديولوجيا دخيلة على جميع اللغات الحية[1]، تعني لغويًّا، في أصلها الفرنسي، علم الأفكار؛ لكنها لم تحتفظ بالمعنى اللغوي، إذ استعارها الألمان وضمنوها معنى آخر، ثم رجعت إلى الفرنسية، فأصبحت دخيلة حتى في لغتها الأصلية؛ إذ غدت بشكل من الأشكال تعني مجموعة من أفكار تنظر إلى نفسها على أنها تطابق الواقع فيُخلَق على أساسها نسقٌ معين يتبعه المنتمون إليها لتأويل الواقع والنظر إليه طبقًا لها. نقول إن فلانًا ينظر إلى الأشياء نظرة أيديولوجية، نعني أنه يختبر الأشياء ويؤول الواقع بكيفية تظهرها دائمًا مطابقة لما يعتقده الحق. يمكن النظر بالتالي للأيديولوجيا على أنها القناع وأيضًا التفكير الوهمي illusoire إذ استُعمِلت في تحليل قضايا المجتمع، فهي تعد ذات طبيعة نسبية، من حيث إنها صحيحة بالنسبة لحاملها وخاطئة بالنسبة لغيره؛ ما يجعل منها وعيًا زائفًا للذات، على حد تعبير ماركس.
نستحضر هنا أربعة من أهم الفلاسفة الذين شكلوا التفكير الغربي المعاصر؛ بل الذين غيروا مجرى التفكير الفلسفي ورؤية الإنسان للعالم، يتعلق الأمر بكلٍّ من ماركس ونيتشه وفرويد، الذين يقول عنهم فيلسوف أركيولوجيا المعرفة ميشيل فوكو: “يظهر لي أن ماركس ونيتشه وفرويد لم يضيفوا دلائل جديدة للعالم الغربي؛ إنهم لم يضيفوا معنى جديدًا على أشياء لم يكن لها معنى، إنما غيروا في الحقيقة طبيعة الدليل والعلامة وبدلوا الكيفية التي كانا يؤولان بها”، بالإضافة لبول ريكور وما أوضحه من آليات اشتغال الأيديولوجيا.
ماركس، الأيديولوجيا والوهم:
إذا رأت فلسفة الأنوار أن الظروف (كلمة عامة تعني كل ما يجده المرء قائمًا أمامه من أنظمة اجتماعية وأفكار موروثة مسيطرة) تؤثر في الفكر وتجعله يرى الأشياء طبقًا لمنطقها هي، لا طبقًا لمنطق الأشياء؛ فهي بالتالي حاجب، قناع، يمنع المرء من الوصول إلى “نور الحقيقة”. فالأمر يتعلق بالنسبة لكارل ماركس، بفهم الميكانيزمات الاجتماعية والتاريخية، التي تقود إلى إنتاج وعي الكائن البشري، وخاصة، الوعي الواهم؛ إذ لم يأخذ ماركس المفهومَ مباشرة من فلاسفة الأنوار رغم تشبعه بتعاليمهم وإعجابه باتجاهاتهم. استعار المفهوم الرائج في الأواسط الاشتراكية الباريسية حيث عادت الأيديولوجيا تعني التفكير غير العقلاني، غير النقدي، الموروث في عهد الاستبداد، وقد تشبعت رغم ذلك، رؤيتُه تجاه هذا المفهوم بالفلسفة الألمانية، بحكم انتمائه لها. وأعطى ماركس لكلمة الأيديولوجيا أهمية كبيرة، إذ استعملها في معان مختلفة ومنا النظرية المتعلقة بالأيديولوجيا بوصفها وهمًا، وإن تأثر بفلاسفة الأنوار في تعاطيه مع هذا المفهوم إلا إنه كان وارثًا للفلسفة الألمانية والهيغلية خاصة. فماركس يثبت حقيقة الواقع بنقد أوهام الآخر، فنقده مضعّف، ينقد أقوالًا كانت ذاتها نقدًا لأقوال أخرى. فيلاحظ ماركس أن المقالة المادية التي ترى أن الإنسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي يتغير الإنسان بتغير الأوضاع وتجديد التربية، تنسى أن الإنسان هو الذي يغير الأوضاع، وأن المربي نفسه محتاج إلى التربية؛ فلا يجب أن ننقد الظروف القائمة بل يجب أن نحلل كيف تكونت تلك الظروف. ويذهب ماركس مذهبًا في نقده للفكر الألماني إلى اعتباره أيديولوجيًّا؛ لأنه محدد أولًا بكونه قوميًّا لأنه يحصر رؤيته في ألمانيا، وثانيًا لكونه اجتماعيًّا إذ يعد فلسفة الأنوار حقيقة مطلقًا، وهنا يختلف كليةً مع فلاسفة الأنوار في تعاطيهم مع “الظروف” بوصفها محددات للفكر والأيديولوجيا وكيفية التعامل معها، كما يختلف مع فلاسفة ألمانيا لكونهم في رأيه ظلوا حبيسي مشروع أيديولوجي. والذي منع الفكر الألماني من القفز على هذين الحاجزين هو جهله بحقيقة التاريخ بوصفه حركة ناتجة عن تناقض قاعدي.
وترى الماركسية في الأيديولوجيا على أنها كلها طبقية، تخدم المصلحة الطبقية، ولا تطلق الماركسية على نفسها هذه الصفة؛ لأنها تدعي أن البروليتارية طبقة كونية تمثل انحلال الطبقات كلها فيها. وليست المصلحة هي سبب التيه عن الواقع بل الجهل بالحركة التاريخية. ويستعمل ماركس كلمة مصلحة في معنى خاص، لا يعني بها مصلحة فرد، بل يعبر بها عن قوى كامنة، في بنية العلاقات الإنتاجية حسب تعبير لاحق تكشفه الممارسة. ويعني ماركس مصلحة الطبقة بوصفها طبقة تعمل غالبًا في ذهن الفرد بدون وعي منه، وتقوده أحيانًا إلى أعمال تعاكس مصلحته الآنية. وإن مادية القرن الثامن عشر هي التي كانت تضخم دور الدوافع النفسانية والمصالح الفردية، أما المادية التاريخية فإنها ترى مصلحة الطبقة بوصفها قانونًا يتحكم في النفس الفردية من الخارج. نجد ماركس يقول: “إن القوة الاجتماعية، أي القوة المنتجة المتعاظمة التي تنبثق بفضل نشاط مختلف الأفراد المشترك الذي يشترطه تقسيم العمل، – إن هذه القوة الاجتماعية تبدو لهؤلاء الأفراد، بحكم أن النشاط المشترك نفسه ينبثق عفويًّا وليس طوعًا واختيارًا، لا بوصفها قوة موحدة خاصة بهم؛ بل بوصفها سلطة ما غريبة قائمة خارجًا عنهم، لا يعرفون شيئًا عن أصلها، وعن اتجاهات تطورها؛ فلا يبقى في وسعهم، بالتالي، أن يسودوا على هذه القوة، بل بالعكس، فإن هذه القوة تمر الآن بجملة من مراحل ودرجات خاصة بها في تطورها، لا تتوقف على إرادة الناس وسلوكهم، وليس هذا وحسب؛ بل بالعكس، توجه هذه الإرادة وهذا السلوك”.
وتتعلق نقطة البدء لفَهم هذا المعطى بما يسميه ماركس بالإنتاج المادي، أي ما ينتجه الإنسان للعيش في كنف الطبيعة، وما يعكس في نظره، توزيعًا للعمل، ويتحدث ماركس في كتابه المشترك مع إنجليز “الأيديولوجيا الألمانية”، عن سلسلة من الافتراضات التي هي بالنسبة لنا، بعد قرن من العلوم الاجتماعية، تبدو اليوم بديهية:
أولًا- وجود تلك الفكرة الأساسية؛ حيث يتضمن التاريخُ الإنساني وجودَ الكائن الحي المنغمس في محيطه الطبيعي.
ثانيًا- يجب أن نعي بأن الإنسان لا يتميز عن الحيوان ليس فقط عبر مميزات بديهية كالثقافة والدين والسياسة… بل يتميز أساسًا بظاهرة هي أصل ما سبق كله، وتتعلق هذه الظاهرة بكون الكائنات البشرية تنتج شروط وجودها الخالص؛ إذ ينتجون أدوات تطوّع الطبيعة وينظمون العمل فيما بينهم، ويشيّدون العالم الذي يعيشون فيه.
ثالثًا- يضيف ماركس أن إنتاج الحياة المادية للإنسان يجب أن يُعاد إنتاجه أيضًا في الزمن، وأيضًا صياغة التاريخ والثقافة.
رابعًا- تتضمن هذه المنتوجاتُ علاقة الناس فيما بيهم، أي وضع علاقات فردانية بين الناس، وعبرها يتبادلون المنافع والأفكار.
وهكذا ينظر إلى الفرد على أنه كائن لا ينتج منعزلًا، ولا يمكنه أن يقوم بذلك بشكل معزول عن الآخرين، فهو يحيا في مجتمعات وضمن طبقات؛ حيث إنه لا يوجد بالنسبة إليه الواقع إلا فيما يقيمه من علاقات اجتماعية، والتي هي جزء لا يتجزأ منها. وفي كتابها المشترك يقترح ماركس وإنجليز رؤيةً جديدة للتاريخ، لأن الإنسان عبر التاريخ نظّم حياته المادية ووزَّع العمل وقسَّمه؛ حيث يعتمد كل شيء على الحياة المادية: (إنتاج السلع، والحياة الاقتصادية…)، أي على الحياة الملموسة وليس على الأفكار… إذ ليست الأفكار والتمثلات هي التي تصنع الحياة؛ لكن العكس هو الصحيح، ونحن نكون في صلب الأيديولوجيا إن آمنا بالعكس. ومنه فإن الأيديولوجيا في الاستعمال الماركسي، تعد منظومة تعكس بنية النظام الاجتماعي. فينظر إلى الأيديولوجيا انطلاقًا من البنية الباطنية للمجتمع الإنساني الذي يتميز بإنتاج وسائل استمراريته.
وبالتالي يمكننا أن نخلص إلى كون الأيديولوجيا هي بمثابة لغة وتمثل لوعي الناس، الذي يترجم واقعهم؛ لكن بالشكل المعكوس في الأيديولوجيا الماركسية يُنظر إلى الناس وعلاقاتهم كأن الكل يمشي ورأسه للأسف كما هو الحال في “القمرة المعتمة” (الكاميرة)، وهذا ما يُفهَم انطلاقًا من سيرورة حياتهم التاريخية.
نيتشه وغل المستضعفين:
استعمل نيتشه الأيديولوجيا من حيث إنها مجموع الأوهام والتعليلات والحيل التي يعاكس بها الإنسان/ الضحية قانونَ الحياة؛ فيُنظر إلى الأيديولوجيا (إذن) انطلاقًا من الحياة بوصفها ظاهرة عامة تفصل عالم الجماد عن عالم الأحياء؛ وذلك باعتبار أن العقل (في التصور النيتشوي) عاجز عن خلق أي قيمة إذا لم يرتبط بالحياة. فمن يعادي الحياة، بالنسبة لنيتشه، يلجأ إلى قيم زائفة ووهمية. ويعد نيتشه أن كل ما أنتجه الإنسان من معارف وحقائق عبارة عن أوهام نسينا أنها كذلك؛ لأنها لا تنتج بفعل سوء استخدام العقل؛ بل إنها ناتجة عن رغبة لا شعورية في حفظ البقاء، فكثيرًا ما تقدم الأوهام نفسها على أنها حقائق وهي تصدر عن شيئين:
أولًا- العقل الذي كما قلنا يظل عاجزًا إذا لم يرتبط بالحياة، ولا يُستخدَم العقل لاكتشاف الحقيقة بقدر ما يوظف للإخفاء والتظليل، خاصة حين يكون في الكشف عن الحقيقة خطرٌ يهدد حياة الإنسان؛ لذا يلجأ العقل إلى الكذب والوهم ويغلفهما بقالب منطقي صارم يخفي الوظيفة الأساسية على مستوى الصراع الاجتماعي الذي يقتضي أن تنتج فئة الضعفاء سلسلةً من الأفكار والمعارف التي تشوه الأوهام؛ وذلك بغية الاحتماء من بطش الأقوياء.
ثانيًا- اللغة؛ إذ يبحث نيتشه عن اشتقاق الكلمات المستعملة في القاموس الأخلاقي، فيكشف أن الصالح يعني في مبادئ اللغات القويَّ النبيل، وأن الفاسد يعني الضعيفَ المغلوب العامي. ويخلص هذا الفيلسوف في كتابه “جينيالوجيا الأخلاق” إلى أن الوعي بالعالم الخارجي وبالذات يُعبَّر عنه عبر الخطاب. ولا يكون الخطاب مطابقًا للواقع نظرًا لأن اللغة عبارة عن تشبيهات واستعارات وضعها الفكر، ولا تكون وسيلة للكشف؛ بل هي فقط وسيلة يستعملها المستضعفون من الناس للتعبير عن القيم والعقائد الوهمية التي يحتمون بها من اعتداء الأقوياء، وذلك في لغة شعرية خطابية جذابة. ويشير نيتشه إلى أن التخلص من الوهم أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا، على عكس الخطأ الذي يمكن تصحيحه؛ لأنه ينتج عن سوء استخدام العقل، بينما الوهم فهو موضوع رغبة وهذا هو السبب الذي يجعل الإنسان يتشبث به ويعده حقيقة. ومن جهة أخرى لا يمكن التخلص من الأوهام لأنها بحسب صاحب “هذا هو الإنسان”، عبارة عن أوهام نافعة ينظر إلى أنها أثبتت فاعليتها في مملكة الصراع من أجل البقاء.
وبالتالي يتخذ نيتشه سبيلًا مختلفًا تمامًا في تعاطيه مع مفهوم الأيديولوجيا، خلافًا لما ذهبت إليه الماركسية؛ حيث يرى ماركس أن هناك علاقة وطيدة، كما سبق وتطرقنا لذلك، بين الوعي بوصفه أفكارًا وتمثلات وأيديولوجيا من جهة، والحياة المادية الاجتماعية من جهة أخرى. ويذهب إلى أن الحياة المادية هي التي تحدد الوعي وليس العكس، غير أن الأيديولوجيا في نظره تقلب الواقع ولا تقدم صورة حقيقية عنه؛ بل إن الاشتراكية، في نظر نيتشه ما هي إلا صورة أخرى من صور غل الضعفاء وحسدهم؛ لذلك نراه يرسم مهمة الإنسانية المعاصرة في إحياء روح الأسياد الذين يسمعون لصوت الطبيعة متجاوزين مفهومي الفضيلة والرذيلة.
تنهض النظرية النيتشوية إذن على أن الأوهام الإنسانية تبرز ذاتها اعتمادًا على البيولوجيا والاشتقاق اللغوي والتاريخي الوقائعي، وهي أيديولوجيا مبنية على نقد الأدلوجات. وعمومًا فالأيديولوجيا عند ماركس قناع يخفي قانون تقدم التاريخ، وعند نيتشه ستار يُبعد عن الحياة.
فرويد ومنطق الرغبة:
وبالمقابل نعثر على روح النظرية النيتشوية في فلسفة العالم النفساني الشهير سيغموند فرويد؛ إذ نجد عبارات نظن أول الأمر أنه نقلها عن نيتشه، نقرأ مثلًا: “علينا نحن بني الإنسان ألا نهمل الحيواني في طبعنا”. لا غرابة في ذلك إذا تذكرنا أن نيتشه كان يعتقد أن الإنسان يحتاج إلى أطباء أكثر مما يحتاج إلى فلاسفة، كما يقول عبد الله العروي. ويعمل فرويد في تحليله النفسي كحفار يبحث عن المنسي تحت التربة/ الوعي الإنساني، يحفر السطح لبلوغ العمق/ الأحقاب المنسية، لبلوغ درجات اللاوعي الذي لم يسبق سبر أغوار طبقاته الدفينة؛ إذ يرى فرويد بأنه ولأن التاريخ الحضاري أو الواعي للإنسان، قصير جدًّا بالنسبة إلى ماضي الحياة، فإن الدوافع المكبوتة لم تغرق في بحر النسيان. ويلعب الماضي في التحليل النفسي (عند فرويد) دورًا أساسيًّا؛ ليس لأنه يخلق الحاضر فحسب؛ بل لأنه مصدر لمحتويات الوعي والشعور كلها. ونجد عنده مبدأ أساسيًّا مفاده أن الماضي حاضر في الحاضر، ونجد المبدأ نفسه عند كلٍّ من ماركس ونيتشه؛ لكن بكيفية مختلفة. فالتحليل النفسي الفرويدي يرى أن كل ما يبدو لنا صغيرًا وتافهًا، قد يكون له دور كبير في بناء بنية اللاوعي واللاشعور؛ بل قد يكون له دور فعال في العلاج النفسي، بما في ذلك حالات الهيستيريا. ويدخل في هذه الأمور التي تبدو “الصغيرة والتافهة”، ما راكمه من داخل ما يسميه بـ”نفسانية جموعية مشتركة”. يقول فرويد: “يشارك كلُّ فردٍ الآخرين في مجموعات متعددة: الجنس، الطبقة، الدين، الشغل… وبعد هذا كله فقط يكتسب، إذا هو اكتسب، ميزة يستقل بها”، ويمضي قائلًا: “إننا نستطيع أن نحدد متى انفصلت النفسانية الفردية عن النفسانية الجموعية collective، متى استقل الفرد نسبيًّا عن الحشد”. فيبدو أن الفرد يتأثر بشكل كبير بالحشد الذي ينتمي إليه، بل الحشود التي ينتمي إليها على اختلاف المجالات التي يتلاقى وإياها. وعندما يكون الفرد في حشد فإن نفسه تكون مسرحًا لعمليتين: أولًا- التماهي مع الآخرين؛ لأن الكل قلق بالقدر نفسه، وينتج عن التماهي التآخي والشعورُ بالقوة والتغلب على الوحدة والخوف والقلق. ثانيًا– تشخيص الأنا-الأعلى في القائد، وينتج عن هذه العملية رضوخ إرادي وتخلٍّ عن قيود العقل وإطراح أعباء المسؤولية.
وبالتالي فالأدلوجة تحضر عند فرويد باعتبارها مجموع الأفكار الناتجة عن التعاقل الذي يبرر السلوك المعاكس لقانون اللذة الضروري لبناء الحضارة؛ فينظر إلى الأدلوجة انطلاقًا من اللذة، وهي ميزة الحيوان وبالتالي ميزة الإنسان الأول؛ ما يسمح بالقول إن الأفكار (حسب فرويد) أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى هدفها، وتعرية الأوهام من صبغة الحق التي يلصقها بها العقل المخدوع هي واجب العلم في رأي فرويد.
ختامًا- ريكور وآليات الأيديولوجيا:
ومن بين أهم الفلاسفة المعاصرين الذين تطرقوا للأدلوجة ووظائفها، نجد فيلسوفًا معاصرًا، يتقاطع بشكل كبير مع النظرية النيتشوية ويختلف وإياه من حيث أهمية صفة الوهم بوصفها وظيفة للأدلوجة؛ وهو الفيلسوف الفرنسي بول ريكور[2] الذي يميز بين ثلاث وظائف للأدلوجة، وتشتغل هذه الوظائف بمستويات مختلفة، بوساطة آليات التشويه والتبرير والإدماج:
تعتمد الآلية الأولى على تشويه الواقع؛ إذ تعمل الأدلوجات على إنتاج صورة معكوسة عن الواقع. أما الآلية الثانية وهي التبرير، فتعمل الطبقة المسيطرة عبره على إعطاء مبررات لأفكارها، وإضفاء المشروعية على مخططاتها ومشاريعها، واتضحت هذه الآلية للعالم من خلال تجربة السلطة التوتاليتارية[3]. وبالنسبة لبول ريكور فإن ظاهرة السيطرة السياسية، عندما تتغذى بالرعب، تكون ظاهرة أشمل وأكثر إثارة للخوف من ظاهرة الصراع الطبقي… أما الآلية الثالثة، فهي متعلقة بوظيفة الإدماج، أي إدماج الأفراد في هوية الجماعية، حيث يُحتَفل بالأحداث المؤسسة لهذه الهوية مع محاولة ترسيخها لدى الأفراد، وتكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية.
يخلص بور ريكور إلى استنتاجٍ قائلٍ إن وظيفة الإدماج هي أهم وظيفة تقوم بها الأدلوجة؛ لأنها تتضمن في طياتها الوظيفتين السابقتين، أي التبرير والتشويه؛ إذ يقول إنه يجب علينا أن ندعم بقوة، الفكرة القائلة: ليس عنصر الوهم أكثر الظواهر أهمية في عمل الأيديولوجيا؛ بل هو فقط تشويه وفساد يصب في عملية التبرير، هذه العملية التي تتجذر داخل الوظيفة الإدماجية للأيديولوجيا[4].
يتضح لنا، وكما يذهب عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الأيديولوجيا، الأدلوجة”، في هذه الاستعمالات (الاستعمال الماركسي، استعمال نيتشه، استعمال فرويد) تتغاير التعابير (تقليد، روح، بنية، وهم، تعاقل) وتختلف المطلقات التي تميز الأدلوجة عن الحق (عقل فردي، تاريخ عام، مجتمع إنساني، حياة، حيوان)؛ لكننا نلاحظ فيها تشابهًا بنيويًّا، يضاف إليها الآليات التي أوضحها الفيلسوف ريكور، وكل استعمال يفرق بين الظاهر والخفي، بين الملموس والحقيقي، بين الوجود والقيمة، ويحدد بالتالي الأدلوجة انطلاقًا من الحق الثابت، فيرفع قناع الأدلوجة عن الحقيقة الباطنية. وهكذا يكشف الليبرالي عن أكاذيب سلطة التقليد، ويفضح الماركسي تعليلات البورجوازية المكشوفة، ويرفع النيتشوي النقاب عن أوهام المستضعفين… إلخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز مناظير جديدة] اعتمدنا في مقالنا هذا على مؤلف الأستاذ المفكر: عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا.. الأدلوجة، دار الفارابي للنشر والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1980.[2] لم يتناول أفكاره الأستاذ العروي في كتابه المذكور.[3] نظام سياسي شمولي تفرض فيه الدولة قوتها على المجتمع دون إشراك المواطنين في تدبير الشأن العام.[4] راجع كتاب:Paul Ricœur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique, éd. Seuil, 1986.
0 تعليقات