تونس في مرمى الجنون الامريكي| بلشفيّات









منذ أن تشكّلت الإمبريالية الأمريكية باعتبارها مركز النظام
 الرأسمالي العالمي، تميز سلوكها تجاه الشعوب المستعمَرة والتابعة بما يمكن أن نسميه "الجنون". غير أنّ هذا الجنون ليس انعدامًا للعقل، بل هو عقلانية خاصة برأس المال الاحتكاري، عقلانية لا ترى في العالم سوى مادة للنهب، ولا في الشعوب سوى أدوات للطاعة أو عوائق ينبغي تدميرها. إنّ الجنون الأمريكي هو الوجه العاري للعقلانية الإمبريالية التي لا تتحمل وجود أي مشروع سيادي مستقل، ولو كان هشًا ومحدودًا. ومن هنا نفهم لماذا لم تستطع أي انتفاضة أو محاولة إصلاحية في وطننا العربي أن تنجو من التدخل الأمريكي، ولماذا تتعرض تونس اليوم إلى استهداف مباشر يضعها في صلب هذه المعادلة.

ففي المشهد العربي الأوسع، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة تعاملت مع كل حركة تحررية أو مشروع وطني ديمقراطي باعتباره تهديدًا استراتيجيًا. لقد كان اجتياح العراق سنة 2003 المثال الأكثر فجاجة: تمّ تدمير دولة بكاملها باسم "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان"، ليتحول البلد إلى ساحة نهب للشركات النفطية والعسكرية. المشهد نفسه تكرر بصيغ أخرى في لبنان، فلسطين، ليبيا، سوريا، واليمن، حيث جرى تسخير أدوات متعددة: من التدخل العسكري المباشر إلى العقوبات والحصار، ومن دعم قوى رجعية محلية إلى الاستثمار في الانقسامات الطائفية والعرقية. وفي كل ذلك، لم يكن الهدف نشر الديمقراطية، بل ضمان إعادة إنتاج التبعية في أشد أشكالها.



في هذا السياق، تأتي تونس كنموذج معبّر. فمنذ انتفاضة 2011، التي وُصفت خطأً بـ"الثورة"، كانت البلاد مسرحًا لمحاولات أمريكية وأوروبية لإعادة هندسة نظام سياسي واقتصادي جديد، ليس بقطع مع البنية القديمة، بل بإعادة إنتاجها في صيغة ليبرالية مغلفة بخطاب "الديمقراطية". لقد أسقطت الجماهير واجهة سلطوية هرمة، لكنّ بنية الدولة التابعة لم تسقط. فالمؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تحولت إلى المقرر الفعلي للسياسات الاقتصادية، بينما تولّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مهمة رسم الخطوط الحمراء للسياسة الخارجية والداخلية. وهكذا جرى احتواء الانتفاضة الشعبية وتحويلها إلى فرصة لإدماج تونس أكثر في منظومة التبعية.

غير أنّ ما يقلق واشنطن اليوم ليس فقط الوضع الاقتصادي الهش، بل أنّ النظام التونسي، بمناوراته ومحدودية قدرته على الخضوع الكلي، بات يُظهر نزعات "عصيان" نسبي تجاه الوصفات الجاهزة. هنا يتجلى الجنون الأمريكي بأوضح صوره: كل نظام لا يستسلم بالكامل لإملاءات الإمبريالية يصبح هدفًا للاستهداف، حتى وإن ظل تابعًا جزئيًا. فالمسألة بالنسبة لواشنطن ليست حرية الشعوب ولا كرامتها، بل درجة الطاعة. ومن هنا يمكن فهم الضغوط الأمريكية المتزايدة على تونس، سواء عبر أدوات "حقوق الإنسان" كسلاح سياسي، أو عبر الابتزاز المالي والمؤسساتي.



إنّ هذا السلوك ليس معزولًا. فالولايات المتحدة استهدفت من قبل كل محاولة للتمرد الوطني الديمقراطي في المنطقة. من تجربة عبد الناصر في مصر، إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، إلى جبهة المقاومة في لبنان، كلها كانت في مرمى الجنون الإمبريالي. فالمنطق واحد: لا يُسمح لأي شعب أو دولة في المحيط العربي بأن تمتلك سيادة حقيقية أو أن ترسم مسارًا خارج الرأسمالية المعولمة.

لكن هذا الجنون يفتح أيضًا ثغرة في جدار الهيمنة: فهو يكشف هشاشة المشروع الإمبريالي نفسه. فحين تضطر الإمبريالية إلى ممارسة هذا الكم من الضغط والتهديد والعقوبات، فإنها تعترف ضمنيًا بوجود إمكانات مقاومة. وتونس اليوم، رغم محدودية حركتها السياسية وضعف قواها الشعبية المنظمة، تظل ساحة اختبار بين مشروعين: مشروع الإمبريالية الذي يريد تكبيل الشعب التونسي إلى الأبد بالديون والتبعية، ومشروع السيادة الشعبية الذي يسعى إلى تحويل الانتفاضة غير المكتملة سنة 2011 إلى ثورة وطنية ديمقراطية حقيقية.

وهنا نعود إلى مهدي عامل حين أكد أنّ التحرر الوطني لا يكتمل إلا إذا ارتبط بمشروع اشتراكي يقطع مع البنية التبعية. ونستحضر جورج حبش الذي شدد على أنّ الصراع مع الإمبريالية والصهيونية معركة واحدة لا تتجزأ، وأنّ أي انتصار محلي لا معنى له إن لم يكن جزءًا من مشروع قومي أممي. كما نستلهم من الشهيد شكري بلعيد خطّه الوطني الديمقراطي الذي رأى أنّ الديمقراطية ليست مجرد واجهة انتخابية، بل هي سيادة شعبية فعلية، وعدالة اجتماعية، ومقاومة للتبعية. هذه المرجعيات الثلاث تضعنا أمام استنتاج واضح: معركة تونس اليوم ليست معركة انتقال دستوري أو صراع على السلطة، بل معركة على طبيعة الدولة والاقتصاد والمجتمع.



لقد بيّنت السنوات الماضية أنّ الرهان على إصلاحات ليبرالية داخل إطار التبعية وهم قاتل. فكل حكومة، مهما كان لونها، إذا لم تطرح بديلًا جذريًا يقوم على فكّ الارتباط مع منظومة الديون وبناء اقتصاد وطني منتج، ستظل رهينة لإملاءات الخارج. وكل خطاب عن "الاستقرار السياسي" يظل فارغًا إذا لم يقترن بتوزيع عادل للثروة وبإعادة الاعتبار للسيادة الشعبية.

إنّ الرد على الجنون الأمريكي لا يكون بالدبلوماسية الشكلية ولا بالمناورات اللفظية، بل ببناء قوة شعبية منظمة قادرة على فرض مشروعها. ذلك المشروع لا يمكن أن يكون إلا وطنيًا ديمقراطيًا في مضمونه، شعبيًا في قاعدته، تقدميًا في أفقه. وهو مشروع لا ينفصل عن الصراع العربي الأشمل ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية. فالمعركة في تونس، كما في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا، هي معركة واحدة: معركة التحرر الوطني والاجتماعي ضد الرأسمالية العالمية وأدواتها المحلية.

إنّ معضلة الجنون الأمريكي تكمن في أنّه يرفض الاعتراف بوجود شعوب تملك إرادة الحياة. لكنه في هذا الرفض يراكم تناقضاته، ويفتح الطريق أمام إمكانية تاريخية: إمكان تحوّل الانتفاضات المجهضة إلى ثورات مكتملة، وإمكان ولادة مشروع عربي تحرري جديد يستعيد روح المقاومة القومية واليسارية. تونس، كنموذج، ليست سوى بداية السطر في نص أطول يُكتب الآن بدماء ومعاناة الشعوب.



وبهذا المعنى، فإنّ المعركة في تونس لا تخص التونسيين وحدهم. إنها مرآة لما ينتظر الأمة العربية بأسرها. فإما أن نستسلم للجنون الأمريكي فنُمحى ككيانات سيادية ونُختزل في أسواق مفتوحة للشركات العابرة للقارات، وإما أن نحمل مشروع السيادة الشعبية ونحوّله إلى واقع ملموس عبر التنظيم والمقاومة وبناء الديمقراطية الشعبية. هنا فقط يصبح "الجنون الأمريكي" معضلة لا لشعوبنا، بل للإمبريالية ذاتها، التي ستجد نفسها عاجزة أمام شعوب قررت أن تكون سيّدة على أرضها وتاريخها ومستقبلها.

إرسال تعليق

0 تعليقات