بقلم فرح الهمامي
لعلّ الانطباعات الأولى التي حملها معظمنا حول ماهيّة الفلسفة و محاور اهتمامها لا تتعدّى المدار النظري الشائع للمادّة.ذلك أنّ في استفتائها لمجموعة من العامّة لم تستهوهم الفلسفة كيانا و غائيّة إشادة سافرة إلى كونها مجموعة من الأفكار اللامتناهية لا تجمعها سوى سمات العبثيّة و الشذوذ المتأتية من استغراق مفرط في التفكير وهي بذلك تحول دون تحقيق وجود رصين و عقلاني لإنسان واجبه الاكتفاء بمتطلبات ذاته و جماعته الماديّة.
بل أضحى "التفلسف" سمة ذميمة تنسب في حواراتنا اليوميّة لكل من استدرجه الفضول و اعترته تساؤلات لا تمتُّ للبداهة و الفطرة السليمة بصلة لدى الطرف الآخر.
هذا الوازع النظري للفلسفة لا يحمل فقط مغالطة حول حقيقة الفلسفة و لبّها؛ فحقيقية الأشياء تظلّ نسبيّة و لا يسعني كهاوية تحت ظلال هذا المعلم أن ادّعي اكتسابي المطلق لجوهر ماهيّتها. بل هو تعدٍّ سافر لموضوعيّة المادّة التاريخية بأكملها.فإذا ما أردنا أن نستجوب التاريخ فسننبهر برأيه المخالف لسائد الأفكار و تخمينات العامة.
قد يختلف مفهومنا للفلسفة عن مفهوم أسلافنا لها.حيث أعتُبرت أُمًا للعلوم و ركيزة للمعرفة جمعاء.فيشيد ديكارت في كتابه "مبادئ الفلسفة" ؛أنّها "دراسة للحكمة لأنّها تهتم بعلم الأصول فيدخل فيها علم اللّه و علوم الإنسان و الطبيعة."إلا أنّ فروع الفلسفة و خاصّة مع بدايات القرن السابع عشر بدأت في الانسلاخ عن جذعها الأم فاستوت البيولوجيا و الفيزياء و بقيّة العلوم كيانا مستقلا و مستوفي الأركان،وذلك لانبعاث طرق و منهجيّات ذات وازع علميّ مختلف في التوصلّ إلى النتائج وإثبات النظريات كإدماج المعادلات الرياضيّة و معالجة التجارب.وهي وسائل إن دمجت في كيان الفلسفة ،قد تؤدي إلى اختلال في الساحة الفلسفية بين مطلق الأفكار و مطلق المعادلات و الأدلّة التجريبيّة.
إلا أنّ هذا الانسلاخ من الأبعاد الميتافيزيقية لم يكن كليّا كما يزعمه العديد فلا معنى للبرهان المادي ما إن لم يُدعَم بمناهج الاستدلال و الاستنتاج و التوثيق.فأتت فلسفة العلوم لتحمي المنهج العلمي و تلُمَّ بافتراضات ضمن علوم متنوّعة.وعلى سبيل المثال لا الحصر،فإنّ نظرية النسبيّة لآينشتاين ،بالتوازي مع البرهان الرياضي ،تدْرَس و تدَرَّس وفق أسئلة فلسفية عن ماهيّة الزمن وطبيعته.
لا تنحصر مجالات فلسفة العلوم في نطاق العلوم التجريبيّة ذلك أنّها تحتضن أيضا علم الاجتماع و الاقتصاد.فتدْرَس قوانين الاقتصاد مع بدائل الفلسفة الأخلاقيّة و الاجتماعية ليٌخلَق حقل تعالج فيه النظريّات الشاغلة للعصر ممهدّة بذلك طريق التغيير و بدائل السياسات الراهنة.
ولعلّ الشهادة الجامعيّة الدامجة للفلسفة والسياسة والاقتصاد التي تقدّمها جامعة اوكسفورد و غيرها من الجامعات البريطانيّة تعدّ شهادة ذائعة الصيت و المنفذ المثالي للطلاب ذوي الغايات الإصلاحيّة،مبرهنة أنّ لا صلاح للمنظومات الجارية دون غوص في قعر اللامادي وجوف النظريات الفلسفية.
إن التنميط لجوهر الفلسفة يتعدّى مرحلة المغالطات العفويّة و مجرّد الأحكام المسبقة فهي ثمرة رؤى اعتقدت أنّ بروز العلم مستقلا هو أعلى مراحل التطور المعرفي للإنسان و ما الفلسفة سوى مرحلة سابقة لهذا النضج.و لا مراء أنّ ها التفكير المتوارث لا يكتسح فقط رأي العامّة بل أيضا الساحة العلميّة لتسود قيمة المادّة و تغيب بذلك غائيّة البحث الذرائعي.لذلك ،تعزيز الصلة بين الفلسفة و العلم و إعادة النظر إلى المبادئ المعتمدة في السعي العلمي يعدّ ضرورة لإضفاء التوازن بين قيمة الشيء و كينونته ، وبين الحقيقية الإحصائيّة /التجريبيّة و مناهج العقلنة.
عن مركز مناظير جديدة
0 تعليقات