رامز مكرم باكير
على عكس تجاربنا، فغالباً تكون ذاكرتنا العرضية هي ذاكرة احداث وليست ذاكرة حقائق، وليست ذات قدرة خارقة على حفظ الماضي، او حتى مراجعته . وإن استحضار الذاكرة ليس كاستحضار شريط فيديو ذهني، نضغط زر التشغيل ونجلس ونشاهد ونتذكر بحيادية، بل اننا نقوم كطرف مشارك ببناء تلك الذكريات من جديد في كل مرة نسترجعها ، فيمتزج الماضي بالحاضر بالحنين بالأمل وبالألم وبالاوهام.
الكثيرين ممن عايشو سوريا مع بداية الالفينات ، يتذكرون سوريا مختلفة كلياً، يتذكرون كيف كان الاستبداد اكثر لطفاً مع بداية عهد الأسد الابن ، أيام من الاستبداد الجميل، وحياة قد تبدو مستقرة للبعض ، والتي لا تشبه سوريا التي ألفها جيل أبي و أمي و لا حتى سوريا التي سيصحوا عليها جيل أولادي في المستقبل.
ولصغر سني في تلك الفترة، حيث كانت مازلت في مرحلة تعليمي الإعدادي، لم اكن ادرك المعاني التي تخفيها الأشياء ، فلماذا على سبيل المثال ، استبدلت بدلة الفتوة المدرسية التي كننا نرتديها كالعساكر ، بالبدلة الكحلية والقميص الأزرق ، ولماذا فجأةً اصبح لدينا في سوريا اديداس ، و كوكاكولا ، ومولات تجارية، وإنترنت، و بدأت البلاد قليلاً قليلاً بالانفتاح على الأسواق النيوليبرالية ، و لماذا بدت التصورات الجمالية للحياة اليومية تأخذ أشكالاً اقرب الى الاستهلاكية ، وأخذت بلدنا تبتعد عن زهد الاشتراكية، ولماذا و كيف أصبحو الناس اقل تاثراً بالبراباغاندا البعثية المقيتة والتي لم اكن افهمها او أطيقها. كانت سوريا تشهد مرحلت تغيير جيلي كامل ، والتي كانت انعكاساً لتغييرات أعمق كانت تحدث للبنى التحتية في المجتمع السوري.
سوريا ما بعد الاشتراكية " الاشتراكية على الطريقة البعثية" :
بعيداً عن الذاكرة والرومسيات والنستلوجيات، كانت أوساط رجال الأعمال و الأثرياء ، “وخصوصاً الذين خسروا منهم خلال فترة إجراءات التأميم الاشتراكية في الستينيات”، قد بدأت تشهد فترتاً من الانتعاش، وذلك مع بدء تبني الأسد الابن سياسات اقتصادية أكثر براغماتية نسبياً، والتي تزامنت مع بدء نشوء طبقة صناعية وتجارية جديدة ، إلى جانب بقية قليلة باقية من البرجوازية القديمة ، وبهذا تمكنت هذه الطبقة التي كانت شبه مكروهة ومهمشة سياسياً في عهد الأسد الأب ، من ايجاد مكانة لها تحت جناح الأسد الابن . وكان لابد من شريحة كبيرة من الضباط في الجيش والأمن و موظفي البرقراطية الفاسدة من شرعنة ثرواتهم مما نهبو وكدّسو من السوريين على مدار السنين ، فقامو ببناء تحالفات و شراكات مع البورجوازية، الصغيرة منها و والكبيرة، يميناً ويساراً ،وبالأخص الدمشقية . وبدء التحول تدريجياً الى اقتصاد ما بعد الاشتراكية ، وأصبحت الدولة بأجهزتها مسخرة لخدمة هذا التحالف الجديد , لتمكينهم و حمايتهم ، وإدارة عبثهم و مضارباتهم بمقدرات الشعب السوري .
بالأرقام والإحصائيات :
منذ نهاية الدعم المالي والعسكري السوفياتي لسوريا في أواخر الثمانينيات ، تساءل الكثير منذ ذلك الحين عن قدرة الاقتصاد السوري على النمو بمفرده ومواكبة النمو السكاني السريع . فوفقاً للبنك الدولي ، كان يتطلب النمو السكاني المستمر في سوريا أن ينمو الاقتصاد بما يزيد عن 5٪ سنويًا من أجل تحسين حياة الانسان السوري.
وكانت قد وصلت البطالة إلى 25٪ بين السوريين في سن العمل. و كان لدينا قطاع عام غير فعال ومتهالك، وفاسد ، حيث كان يوظف 73٪ من القوة العاملة ،ولكنه يولد 33٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي .
و كلنا عانينا بصمت من البيروقراطية المتضخمة و البطيئة والفاسدة عندما احتجنا لإخراج ورقة حكومية او اتمام معاملة. فالفساد كان يكلف سوريا ما يقدر بنحو 4 مليارات دولار سنويًا. عدى عن ذلك نهب المليارات من الإيرادات الحكومية بحجة الإنفاق العسكري والاستخباراتي. كل هذه الأموال والثروات كانت تنهب على حسالب تطوير البنى التحتية والتعليم والصحة و الإنتاج ورفاه الشعب السوري.
ديون سوريا المتراكمة، وازمةالنفط:
كل ما نقبت اكثر في الذاكرة، كلما زاد استغرابي عن ما كان يتداول في سوريا من اشاعات وأرقام وخاصةً مما اتذكر سماعه ايام مراهقتي ، فمع السياسات القمعية وسياسات التعتيم والتي مازالت حتى الان متبعة ، كننا داءماً نسعى وراء المراجع والدراسات وحتى تقارير الاستخبارات الأجنبية لنعرف ما الذي كان يحدث في سوريا.
كنت اسمع كثيراً ان سوريا غنية ولدينا واحد من أقل الديون الخارجية في العالم، والحقيقة كانت ان ديون سوريا الخارجية تقدر بحوالي 21 مليار دولار أو 22٪ من الناتج الإجمالي المحلي، والتي كانت تمثل واحدة من أعلى النسب في الشرق الأوسط، والنسبة كانت في ازدياد.
وبالوقت الذي كان الكثيرون يسخرون من أقتصاد دول الخليج العربي ، كانت سوريا تعتمد إلى حد كبير على عائدات النفط والتي كانت تمثل ما يقدر بـ 40-50٪ من دخل الدولة و 60-70٪ من الصادرات السورية ، وكان يعتقد الخبراء أن سوريا ستستنزف كل هذه الاحتياطات خلال اقل من عقد من الزمن.
فعندما يتعين على هكذا نظام التعامل مع اقتصاد يتداعى ولم يعد قادرًا على مواكبة النمو السكاني أو الاعتماد على احتياطيات النفط المتضائلة ، وسوء إدارة وتخطيط كبير ، فالنتيجة حتماً ستكون كارثية.
كاللّئام على موائد ايتام الشعب السوري:
الكثيرين تفاءلو بالأسد الابن عندما صعد إلى السلطة في عام 2000 ، و بأن الابن شاب، و سيحيط نفسه بتكنوقراطيين ذوي توجهات غربية ، ومتعلم في لندن ، وبيحكي إنكليزي، و ان الاقتصاد سيتحسن وكل هذه الأوهام والهلوسات .
على العكس تماماً، فقد سارع بشار الاسد الى توطيد علاقاته مع البرجوازية بخلاف والده، فأصبحت هذه العلاقة أقوى بكثير من ما مضى، فكان بتصوره ان هكذا يتم اخراج البلاد من ازماتها، فتداعى القطاع العام ، على حساب نمو قطاع خاص غير فعال ، ويخدم شريحة برجوازي لا تمثل نسبتها شيء من المجتمع السوري، و بدل ان كان النهب والاستغلال يئتي من طرف النظام وحده، أصبحت البرجوازية شريكتاً معه، البرجوازية التي لم تكن يوماً قوة تقدمية في تاريخ سوريا. واصبحوا مثلما يقول المثل.
كاللّئام على موائد ايتام الشعب السوري.
سمعنا الكثيرين يتباكون على سوريا قبل ٢٠١١، ولكن بعيداً عن النستالجيات والذاكرة ومع قليل من التأمل والتفكر!
فتراكم كل هذه الأخطاء ، والفساد والتجاوزات و سوء إدارة الدولة وغير ذلك من قمع وتعسف .
اضافتاً الى القفزة الغبية التي حدثت، والتي حولت سوريا من دولة اشتراكية "على الطريقة البعثية"، الى هذه الدولة البرجوازية العسكرية الأمنية الفاشلة والمشوهة ، والمدانة بجرائم حرب.
هل كان انفجار الوضع في سوريا هوالذي ادى الى هذا الفشل والأزمة التي وصلنا اليها ؟ ام ان الأزمة هي النتيجة الحتمية، وكل ما نشهده هو اقساط من ضريبة اخطاء الماضي المتراكمة ؟
المصادر:( البنك الدولي ، موجز الدولة: الجمهورية العربية السورية ، أكتوبر / تشرين الأول 2001. متاح على الإنترنت على [http://lnweb18.worldbank.org/mna/mena.nsf/Countries/Syrian+Arab+Rep/2531ADE242 6CE87485256AFF005759AD؟ OpenDocument].و تستند الإحصائيات في المقال على تقديرات لوكالة المخابرات المركزية الامريكية. انظر وكالة الاستخبارات المركزية ، كتاب حقائق العالم 2004 ، كانون الثاني (يناير) 2004. متاح على الإنترنت على الموقع [http://www.odci.gov/cia/publications/factbook/index.html].الشراكة الأورومتوسطية ، "ورقة إستراتيجية الدولة 2002-2006" ، بدون تاريخ.إدارة معلومات الطاقة بوزارة الطاقة الأمريكية ، ملخصات التحليل القطري: سوريا ، أبريل 2004. متاح على الإنترنت على [http://www.eia.doe.gov/emeu/cabs/ syria.html].28 من 2000 إلى 200325 "آفاق 2004: التحولات المحتملة على الجبهة العربية الإسرائيلية" ، أكسفورد أناليتيك ، 22 ديسمبر 2003.http://wikileaks.org/wiki/CRS-RL32727CRS-10
0 تعليقات