بقلم : رامز مكرم باكير
كثيراً ما نسمع عن فشل الشيوعية ، وانها تسببت بمعاناة الملايين؛ الاتحاد السوفييتي ٢٠ مليون ضحية ممارسات الحزب الشيوعي وسياساته؛ والصين الماوية الله اعلم كم من الضحايا؛ كمبوديا؛ فيتنام؛ وكل البلاد التي تنسب لها الشيوعية أو كانت جزئاً من هذه التجربة.
ولكن ما مدى صحة هذه الادعائات ؟
بدئاً ، وخلافاً لاكثر هذه التجارب، والتي لا يمكن ولا بشكل اطلاق صفة الشيوعية عليها ، والتي بالكاد استعملت الوصفة الشيوعية لاقامة نوع من الدكتاتورية البيرقراطية او دكتاتورية طبقة ما، بدلاً من السعي إلى إقامة دكتاتورية البلوريتاريا الحقيقية. تلك الدكتاتوريات التي انقلبت على الجماهير واقامت نظاماً من "الشيوعية العرفية" أو شيوعية جهاز الدولة أو كما حتى يذهب البعض ويسميها "برأسمالية الدولة" كما هو الحال في الصين "الشعبية" ، والتي استولت على مقدرات البلاد والانتاج ، واختزلت دور العامل إلى ان اصبح مجرد وقود للاستغلال والحرق.
ويلاحظ ايضاً أن هذه الشيوعيات هي شيوعيات كاذبة ، و لم تصل إلى السلطة كنتيجة عضوية لحركة المجتمع وتطوره ، أو نتاجاً لنجاح ثورة ، بل قامت من خلال إستيلاء جماعات أو أحزاب معينة على الحكم ، ونتيجة انقلاب على الجماهير و ثوراتهم وحريتهم.
ومن المهم الإشارة إلى استحالة قيام شيوعية حقيقية بعالم رأسمالي ، وبمعزل عن محيطها، دون أن تاتي نتيجةً لثورة اجتماعية شاملة، كما هو الحال في بدايات الثورة البلشفية وكمونة باريس ، والتي جائت نتيجة لحركات عمالية اممية كانت تعصف باوربا وقتها (منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين).
وبالعودة إلى الادعاءات والتي لطالما يجد الشيوعي نفسه في صدام دائم معها ، يلاحظ انها دائماً ما تكون مجحفة ، وتتجاهل أو تتعامى عن نقطتين رئيسيين: أولهما الضغوط الهائلة والتدخلات من قبل الطبقات الرأسمالية لإفشال أي تجربة شيوعية أو حتى اشتراكية.
أما النقطة الثانية فهي التقليل من شأن الإنجازات التي حققتها التجربة الشيوعية ، واستخلاص النتائج الخاطئة والتركيز على ما هو سلبي منها.
ففي الاتحاد السوفييتي ، وبعد نجاح ثورة أكتوبر واستيلاء البلاشفة على الحكم ، شرعت كل من الدول الامبريالية الثلاثة ( الولايات المتحدة و إنكلترا وفرنسا) إلى اجتياح أراضي الاتحاد السوفييتي، وذلك بهدف القضاء على الثورة قبل انتشارها عام ١٩١٩، أو كما قالها وينستون شرشل:
"لسحق القوى الثورية وخنقها وهي ما تزال في مهدها".
إضافةً إلى العمليات الاستخباراتية الامريكية والتي كانت تديرعمليات دعائية واسعة مضادة للشيوعية من طباعة كتب ومنشورات وغيرها من الوسائط، حتى انهم ذهبوا إلى تجنيد ضباط نازيين خبراء سابقين من متحدثي الروسية لإدارة محطات راديو تبث براباغاندا معادية للشيوعية داخل أراضي الاتحاد السوفييتي. وهناك الكثير من أساليب التجسس والتدخل التي كانت متبعة في العمليات أبان الحرب الباردة والتي لازالت حتى اليوم تلهم الكثير من الروائيين والكتاب والمخرجين السينمائيين.
أمثلة على تدخل القوى الامبريالية لافشال التجارب الاشتراكية والشيوعيه و حركات التحرر الوطنية :
لدينا مثالاً ايضاً : كضخ المليارات من الدولارات لتسليح المجاهدين والدعاية لهم والتيارات الإسلامية وقتها لمحاربة الاتحاد السوفييتي إلى ان اصبحوا قوة امر واقع على ، عسكرياً وسياسياً واجتماعيّاً والذي جاء على حساب نظام الحكم العلماني وقتها والذي كان يميل إلى حد ما وقتها إلى الاشتراكية . وفي ايران دعم الولايات المتحدة لخلع رئيس الوزراء محمد مصدق ودعم الشاه المعادي للشيوعية والديمقراطية ، والذي مارس على الشيوعيين اشد اانواع التعسف والاضطهاد بالسجن والتعذيب الوحشي حتى الموت. وفي العراق دعم الامبريالية للانقلاب الذي أوصل صدام حسين بقيادة الجنرال أحمد بكر.
وفي فيتنام، قاتل الفيتناميين ببطولة واستبسال رغم عدم تكافؤ القوة الكبير بينهم وبين الولايات المتحدة واوقعو فيهم القتلى والخسائر، مثلما فعلوا سابقاتها ، الصين والفرنسا بعدها. وعندما شنت الولايات المتحدة حربها عليهم ، كان معروفاً وقتها أنهُ لو حصلت انتخابات نزيهة في أي وقت ، لوصل الحزب الشيوعي الى السلطة . ومازالت فيتنام حتى يومنا هذا بلداً شيوعياً ، بغض النظر عن سعيها مؤخراً إلى الانفتاح التدريجي على الأسواق النيوليبرالية ، فكما ذكرت سابقاً ، الشيوعية لا يمكن تحقيقها بمعزل عن العالم ، ودون السعي لبناء تيار اممي لقيام الثورة .
وبالانتقال إلى اندونيسيا : قامت الاستخبارات الامريكية بضخ الكثير من الأموال لشراء ذمة الرئيس سيكارنو ، وعندما فشلو ، لجئوا إلى الصاق فضيحة جنسية به لاغتيال صورته وشعبيته، وعندما فشلوا اخيراً بكل هذه الوسائل ، قاموا بدعم انقلاب عسكري ضده والذي أدى إلى مقتل مئات الالاف من الاندونيسيين بتهمة الشيوعية .
وعلى الطرف الاخر من العالم، في تشيلي، وبعد وصول الرئيس سيلفادور الاندي إلى سدة الحكم عن طريق انتخابات نزيهة ، ورغماً عن تدخلات الاستخبارات الامريكية والملايين التي صرفت لإحباط نجاحه. قامو بدعم وترتيب انقلاب عسكري ضده والذي ادّى إلى مقتل وتعذيب وملاحقة وسجن عشرات الالاف من الاشتراكيين.
وفي كوبا المثال الأكبر ، فقد دعمت الولايات المتحدة الديكتاتور الفاشي اليميني المتطرف باتيستا قبل قيام الثورة الكوبية. ولا يمكن نسيان كل السياسات والممارسات التي قامت بها الولايات المتحدة لزعزعة استقرار وافشال هذه الدولة الشيوعية ، من هجمات عسكرية متكررة ؛ انقلابات؛ محاولات اغتيال؛ وحصار اقتصادي خانق ، وكل هذه التجاوزات على القانون الدولي.
ولدينا عشرات الأمثلة الأخرى ، في نيكاراغوا؛ البرازيل ؛ كولومبيا وكثير من الدول الأخرى.
تلك الحقبة من التاريخ والذي سماها بعض المؤرخين "مرحلة حروب الولايات المتحدة القذرة" أو الحرب القذرة.
وكما يقول المثل "وراء كلّ فشل نظام اشتراكي عميل استخبارات أمريكي".
ولم تكن الولايات المتحدة بمنئى عن تاثيرات الحركات الشيوعية ، والتي قامت أجهزتها الامبريالية بالتدخل لمناهضتها وافشالها ، غالباً عن طريق الدعم المباشر أو غير المباشر لجماعات اليمين المتطرفة ، كجماعات جيش الحرس الوطني وجماعات بينكرتون والآي آر إس والكثير من الجماعات والمليشيات المرخصة غيرهم. والذين ارتكبوا اعمال عنف وابادة استهدفت التنظيمات الشيوعية والحركات العمالية ، كمجزرة الليمبو، وملاحقة جماعات القبعات البنية و حزب الفهود السود وتمردت الهنود الحمر والايرلنديين ، والعديد العديد من الأمثلة الأخرى والتي يمكن التوسع في البحث فيها في كتب مثل "عامل الاستبداد" لوارد شيرشل ،
وكتاب "صعود وافول العمال الردكاليين لهاري بردجيت.
التقليل من شأن المنجزات والمكاسب التي حققتها الشيوعية:
بحسب احد التقارير الصادرة عن البنك الدولي عن مؤشرات مستوى المعيشة في البلدان الاشتراكية مقارنةً بالبلدان الرأسمالية ، الذي أعداه الخبيرين الاقتصاديين شيرلي سيريزيتو و هاورد ويتزكن ، والصادر بتاريخ ٧ تشرين الأول عام ٢٠١١، يقول التقرير أن البلدان الاشتراكية تنعم بمستوى معيشي مادي اعلى نسبياً من البلدان الرأسمالية . من حيث التعليم؛ طول العمر؛ التغذية ، وإمكانية الحصول على التعليم العالي . وبحسب تقرير آخر صادر عن منظمة أوكسفام الامريكية عن كوبا وانجازات الثورة الكوبية . يقول التقرير أن معدلات كوبا في التنمية في قطاعات اتعليم والصحة والامن الغذائي عالية جداً .
وبعيداً عن التقارير والأرقام ، فهناك الالاف من المنجزات التاريخية التي حققتها الشيوعية والحركات العمالية والتي لما كانت ان تحققت لولا تضحياتهم ، من تحديد الأجور وساعات العمل ، إلى التامين الصحي ، والتعليم المجاني ، وتحسين ظروف العمل ، والضمان الاجتماعي ، والتحرر من النازية الفاشية ، والهام حركات التحرر الشعبية واستقلال الكثير من الشعوب المستعمرة، وغيرها الكثير من المنجزات .
أما بالنسبة للاتهامات الأخرى والتي قد يكون فيها الكثير من الصحة ، بخصوص الدكتاتورية ، و محدودية التمثيل السياسي للجماهير ، والتعسف والابادة التي مارستها بعض الأنظمة الشيوعية ، فمعظم هذه الاحداث والممارسات ترجع إلى اكثر المراحل إضطراباً في تاريخنا المعاصر، إذ لم يكن في تاريخ المجتمعات البشرية جمعاء. وإن الثورات هي ليست اعراس شعبية و شعارات ورموز ، بل هي حركات تحرر شعبية تأتي نتيجةً لغضب جماهيري مكبوت ، ونابع من إرادة عارمة للتغيير والتي لا تاتي إلّا في زمن الازمات.
وختاماً، ليس هناك شيئاً بالمطلق ، و إن إدّعائات فشل الشيوعية ، بل وحتى ادعائات فشل الرأسمالية، هي مجرد إدّعائات ساذجة ولاموضوعية ، وبنفس هذه المعاييرالإدّعائاة يمكن اتهام الرأسمالية ووحشية نظام الأمبريالية ، فهم ايضاً تسببو بالابادة والمعاناة للملايين ، بل واكثر من الشيوعية. وبدلاً من ذلك يجب تعزيز الحوار ، ومناقشة برامج و سياسات بدلاً من اديلوجيات ودواغمات ، وإن الأمور تقاس بنسبيتها وتتحدد بالمعطيات والأدوات المتاحة و بيئة كل مكان ، وما اذ كانت الأرضية خصبة لبناء التيار .
0 تعليقات